نوع المستند : المقالة الأصلية
المؤلف
أستاذ الأدب العربي المساعد – کلية الآداب – جامعة حلوان
المستخلص
الكلمات الرئيسية
(القصیدة الحاسوبیة فی شعر أحمد فضل شبلول)
قراءة فی البعد الموضوعی وبنیة النسق الفنی
بحث مقدم من :
د . بهاء عبد الفتاح علی حسب الله
أستاذ الأدب العربی المساعد – کلیة الآداب – جامعة حلوان
مقدمة :
الحدیث عن الأجناس الأدبیة المعاصرة مبحث یجدد نفسه طالما تجددت محاور النقد ومشاربه وسیاقاته ، وتجددت موازیة لها علوم اللغة والأسالیب والتراکیب والمناهج ، والمعارف الإنسانیة مجتمعة ، وعلوم النصیة المعاصرة ، ومن ثم لمسنا النص الأدبی یتقلب عبر مناهج ومذاهب وقراءات کثیرة ، فیتمحور مرة بین الانطباعیة والعقلانیة والأخلاقیة والعملیة ، ومرة بین الاجتماعیة والتاریخیة والنفسیة وغیرها ، حتى استوى عوده ، وصار علمًا قائمًا بذاته ، خاصة مع اسهمات فان دیک وبارت ویاکوبسون وتودروف وریفاتیر [1] ، باعتبار أن حرکة الأدب المعاصر وحرکة الدراسات البحثیة الأدبیة الراهنة ترتبط ارتباطا مباشرًا بحرکة الحیاة الإنسانیة عامة ، وبما یمکننا أن نسمیه بالتحولات المعاصرة للأنساق الثقافیة والاجتماعیة والفکریة والحضاریة ، فی تنوعها وتجددها ودیمومتها ، وفی مختلف وسائل التعبیر عنها ، وبمنظومة الصلات البشریة کافة ، خاصة مع اتساع شکول العلاقات الاجتماعیة عبر وسائل الاتصال الحدیثة ، وتغیر معاییر القیم ومفاهیمها وتبدلها ، وتحول الأنماط المعرفیة والفکریة ذاتها من حال إلى حال ، مما ألقى بظلاله على فکر (المنهجیة ) لبنیة النص الأدبی ولغته وخیاله وإیقاعاته المختلفة ، وفکر ( المنهجیة ) فی المعالجة النقدیة للناقد الأدبی ذاته ، فی تواشجه مع أبعاد النص الأدبی المعاصر ورموزه ، وتعامله معه من زاویة التحلیل والقراءة البینیة ، تماشیا واستجابة لتغیر تیار الوعی المعاصر وانتفاضته فی معظم المیادین الأدبیة والفکریة والعلمیة ، حتى بات النص یکشف بطرق مباشرة أو غیر مباشرة عن منطق الخروج عن الثوابت ، أو ما یسمیه النقاد المعاصرون بـ (انکسار النوعیة ) [2]، خاصة مع هذا التقارب الذی نراه بین الشعریة والروائیة حالیا – على سبیل المثال – مع تبادل التقنیات الفنیة بینهما .
ویبقى مع دوران الحرکة الحیاتیة المعاصرة ذاتها ، ومع وجود المؤثرات الخارجیة القویة فی عصر تتسابق فیه الأحداث على کافة المستویات المعیشیة من سیاسیة واجتماعیة وثقافیة وعلمیة ، أن تجددت وظائف الأدب ووظائف النص الأدبی وأدوار الناقد الأدبی نفسه وتغیرت أدواتها ووسائل التعبیر عنها وسیاقاتها الموضوعیة والفنیة ، وخرجت فی أحیان کثیرة عن نطاق النظرة التقلیدیة لوظیفة النص الأدبی ووظیفة دارسه ، وطبیعة النظرة الجمالیة القائمة على فکرة أن العلاقات الوشیجة بین عناصر الخطاب تقوم على الإتقان الدلالی التام بین مفردات الخطاب وبنیته النصیة ورمزه الأثیر ، وذلک بعد أن رأینا فی الآونة الأخیرة أن الفعل الجماهیری والثقافی العام الذی یتحدد حسب ذوق العصر بات مهتمًا بأطراف ووجوه غیر رسمیة کثیرة ، فالأغنیة الشبابیة واللغة الریاضیة والاهتمام الهوسی بعالم التکنولوجیات الحدیثة وشبکات الاتصال المفتوحة والإعلام والدراما التلفزیونیة أصبح یؤثر من ناحیة الفعل ورده أکثر من قصیدة للمتنبی مثلا أو قصیدة لأبی نواس أو نزار ، ومن ثم بات للمؤسسة الأدبیة المعاصرة ولحرکات النقد الجدید أن تعید حساباتها ، وأن تسعى لتأسیس نظریة نقدیة ثقافیة معاصرة تتواءم وتتوافق مع طبیعة مرحلتنا الثقافیة الراهنة بکل تفاعلاتها وإشکالیاتها ، و بلون من ألوان المراجعة النقدیة الذاتیة . فلم تعد النظرة النقدیة للوضع الثقافی والأدبی والقیمی تقف عند حد البحث عن وجودنا فیما بین الحداثة أو ما بعدها ، أو فیما بین البنیویة وما بعدها ، فظنی أن الخطوط الفاصلة قد اتسعت ، واتسعت معها دلالاتها وأبعادها الجدیدة ، ودلیلنا فی ذلک أننا بدأنا نستشعر بکوننا أمام بدایات جدیدة ، تقودنا إلى مراحل جدیدة تتجاوز فی طبیعة النظر للوظیفة الحقیقیة للنص ، ولنقده عتبات الأفکار التقلیدیة الموضوعیة والفنیة إلى عتبات الحدود المتقاطعة والمتداخلة من کافة المداخل النقدیة المؤثرة ، وهذا الذی دفع نقادنا المعاصرین للبحث عن مهمة نقدیة جدیدة تؤسس للنظر النقدی الثقافی العام .
والملاحظ فی الخطوة الأولى فی نطاق الوظائف الجدیدة للنص الأدبی ولنقده أنها قامت مؤخراعلى فکرة ( کسر مرکزیة النص ) والبعد عن النظرة التقلیدیة للنص الأدبی على کونه نصًا جمالیًا بالدرجة الأولى ، تؤثر فیه الدوافع النفسیة والاجتماعیة العامة والخاصة ، وتدفعه إلى استلهام المعنى متوافقا مع عناصر بنیة الفن ، بل أصبحنا ننظر إلى النص من حیث ما یتحقق فیه وما ینکشف عنه من أنظمة ثقافیة [3] ، فالنص وسیلة وأداة ، وحسب مفهوم ( الدراسات الثقافیة ) المعاصرة لیس النص سوى مادة خام یُستخدم لاستکشاف الأیدیولوجیة وأنساق التمثیل ونظمها ، وکل ما یمکن تجریده من النص ذاته ، ومن ثم لم تعد المسألة مرتبطة بالدرجة الأولى بفکرة قراءة النص فی ظلال خلفیاته المتوارثة منذ القدم ، کالخلفیة التاریخیة والاجتماعیة والجمالیة على سبیل المثال ، بل تعدت ذلک لتقف عند حدود أوسع وأشمل ومنها على سبیل المثال الوقوف على الأنساق الثقافیة فی عملیات إنتاج النص ، وأبعاد الدلالات الترکیبیة لطبیعة المعنى النصی ذاته ، ومدى تفاعل المتلقی مع أشکال النص وأسالیبه ، وطرقه الابتکاریة الخلاقة والمبدعة والجدیدة .
ولذا لم نعجب أن نرى أن طبیعة القفزات العصریة الحدیثة ، ومنها على سبیل المثال القفزة التکنولوجیة والحاسوبیة قد ترکت بصماتها على البنیة الإبداعیة المعاصرة سواء فی جانبها الموضوعی أو الفنی أو إطارها الفکری العام ، بعد أن أصبحنا أمام حقیقة ثابتة ومؤثرة ألا وهی الحقیقة التکنولوجیة ، التی تغیر معها الخطاب الثقافی والإعلامی ، فحلت الوسیلة محل الرسالة ، مما غیر لغة الأشیاء وبدل الواقع الذهنی والذوقی الذی کنا نألفه إلى واقع أخر هو الواقع التکنولوجی ، فصارت النماذج الثقافیة والعلامات الإعلامیة تقدم صیغًا فکریة وسلوکیة تمثل خبرة مجتلبة تفوق الخبرة الحیاتیة الیومیة وتختلف عنها [4] ، ولذا لم یعد جدیدًا أن نسمع ونقرأ فی الفترات الأخیرة عما یسمى بالروایة التکنولوجیة ، والقصیدة التکنولوجیة ، ولغة التواصل الاجتماعی ، وهی تمثل ببساطة خطابًا مرکبًا من عناصر الحیاة المصاحبة للتغیر التکنولوجی المستمر فی التمادی والتحول والتجدید ، وترکب فیما بینها فی عملیة مونتاج – إن صح التعبیر – تدمج ما هو إنسانی بمعناه المعارض ، وما هو تکنولوجی بمعناه غیر المستقر ، وهی محاولات لکسر الحدود ما بین الفن والأدب والفکر والنظریات الحدیثة ووسائل الاتصال من أجل فتح اللغز التکنولوجی والتعامل مع هذا التطور تعاملا مفتوحًا غیر طبقی یتیح للإنسان أن یستفید من هذه المکتسبات ویوظفها فنیًا مثلما تعامل الإنسان من قبل مع الأسطورة ووظفها لصالح خطابه الإبداعی والفنی ، وهنا یأتی الفارق مع الروایة العلمیة من حیث أن الروایة العلمیة تعتمد فی معظمها على الخطاب العلمی المؤسساتی ، وشخوصها تأتی من المؤسسة ، بینما تأخذ ( الروایة التکنولوجیة ) بأطراف المهمش العلمی والشخوص المتمردة ، وتسعى للتعامل الواقعی مع الأشیاء کمقابل للخیال العلمی الذی ینشغل مع عوالم الکون المتنائیة ومع کائنات متخیلة فی إمبراطوریات على کواکب لا واقع لها ، ومن ثم فإن أسلوب الروایة التکنولوجیة یقوم على التخیل المرکز المبنی على الممکن والمتصور مع شفافیة التوصیف ، وعامل السرعة مع عامل الطاقة هما الخاصیة الأسلوبیة للسرد التکنولوجی ، یضاف إلى ذلک عامل المفاجأة تمامًا کما هی سمات المجتمع التکنولوجی شدید التقدم ، ورغم أنها روایة تمثل فی ذاتیتها أسلوبًا جدیدًا للخطاب إلا أنها تلتزم بالشرط السردی التقلیدی کالحبکة والشخصیة والقص ، وامتزاج العلمی بالخیالی والفلسفی بالأدبی والبولیسی ، مثلما تجمع بین البشری والآلی ، ویعتبر ویلیام جبسون رائد هذا الفن على المستوى العالم .
ورغم تعدد أنساق النتاج الأدبی فی وقتنا الراهن وتواشجها مع البعد التکنولوجی المعاصر إلا أن تعدد مثل هذه الأنساق قادنا إلى عدة آلیات فی الحکم على بعض هذه الأعمال .. أهمها : الغیاب والتشتت الدلالیین ، وانتفاء القصدیة ، وإبهام العلاقات اللغویة ، والإغراق فی المجاز ، وإهدار المعنى فی کثیر من الأحیان ، وبتر التواصل ، وقد دفعنا هذا إلى الدوران فی مناخ من مناخات الفقد ، التی اعترت إنسان العصر ، کما قادتنا إلى قضیة من أبرز قضایا العصر ، وهی قضیة فقد الدلالة فی کثیر من بنیات الشعر المعاصر ، والذی نتج فی معظمه إفرازًا لما واکب القرن العشرین وما بعده من تغیرات ، فأصبحت بعض نصوصه تهیم فی مناطق مقفرة ، فارغة من المعنى [5] ، وذلک لاعتبار مهم ألا وهو أن النص العلمی – إن صحت تسمیته – یشیر إلى حقیقة مادیة محددة ، لا تشیر إلیها القصیدة التقلیدیة ، التی لا تعبأ کثیرًا بحقائق المواد ، ولا یمکن أن تطبق علیها معاییر التجریب العلمی ، ویبدو أن مثل هذا الفصل بین العقل والعاطفة فی مثل هذه النصوص قد وقع تحت ضغط التجریبیة الجدیدة ، منذ أیام ( لوک ) ، وأدى فی حقیقة الأمر إلى التقلیل من أهمیة الشعر فی معرفة الحقیقة والوجود ، فقد أدت الشیفرة العلمیة والعقلانیة المبالغ فیها التی سیطرت على أوروبا ، منذ ذلک الوقت إلى إعطاء الأولویة فی معرفة الحقیقة للعقل ، وأصبحت الحقیقیة الشعریة الحدسیة بالدرجة الأولى مجرد تجمیل للحقیقة الخاریجیة ، والتی لا یتم إثباتها بالمقاییس الجمالیة [6] ، ولکن تبقى الحقیقة صادعة بأن مثل هذه الآلیات فی الحکم على هذا النسق الشعری الجدید والمعاصر ، لم تطل سوى الأعمال التی مالت بالفعل إلى مسالک الغموض والتعقید والمبالغة فی صناعة النص الأدبی ، وقصدت بالفعل إلى التشتت الدلالی ، أو تأجیل الدلالة ، وهو ما ظهر جلیا لدى بعض دعاة التفکیک ، والاتجاهات التی ترى الشعر لا یصف شیئًا ، وإنما هو مجرد صیاغة لغویة ، ولیس المطلوب فیه أن نبحث عن معنى لأنه غیر موجود ، وإذا وجد فسیظل مرجأ ، أو مؤجلا إلى غیر حین [7].
وإذا انتقلنا إلى لون أخر من ألوان الإبداع الذی استطاع أن یمزج روح الفن مع هذا اللون الخطابی الجدید ، محاولا أن یجد لهذه الترکیبة المزجیة الجدیدة موضعًا فی فضاء الإبداع العربی المعاصر ، وأن یکون مقبولا ، فإننا نجد محاولات بعض الشعراء المعاصرین متنوعة وجدیدة وفریدة ومقبولة ، فمنهم من أضاف عن تجارب صادقة کثیرًا فی هذا السیاق ، وجدد فیه ، ونوَّع عن رؤیة بائنةوجلیةوحقیقیةفیخطابهالشعری ، وهذا مقصد بحثنا ، أن نبحث عمن جدد وأضاف فی أصل مثل هذه التجارب المستحدثة والفریدة ، وأهمیة البحث هنا تتمرکز فی رصد مثل هذه الاتجاهات النادرة فی دیوان شعرنا المعاصر ، وفی طابع تکوینها الأدبی والفنی وخاصة عند الشاعر المصری أحمد فضل شبلول [8] ، الذی نجح فی اختراق هذا العالم بنجاح وتمیز وتفرد ، لعوامل عدة منها على سبیل المثال تعلق الشاعر نفسه بهذا الخط التکنولوجی الحدیث ، وخاصة لفنون الحاسوب وأدواته من باب الاعتقاد المؤکد بأثر هذا الخط التکنولوجی الخلاب فی تکوین عقلیة الأجیال الجدیدة وتشکیلها مهما اختلفت أعمارُها وهویتها ، الأمر الذی دفعه فی الآونة الأخیرة إلى تخصیص موقع على شبکة المعلومات الدولیة ( الانترنت ) للإبداع العربی ولفنونه ونصوصه الجدیدة ، ولکتاب (الإنترنت) العرب .
ثانیًا : امتلاک الشاعر نفسه لقدرات التعبیر المختلج والممتزج والمتآلف بین روح اللغة الشاعرة المعاصرة ، وبین ألوان التعبیر عنها بمفردات العالم التکنولوجی الحاسوبی الجدید وأیقوناته المستحدثة تعبیرًا لم یفقد فیه السیاق الشعری روح الإحساس ولا نبض التأثیر الوجدانی المتألق ، ولا عاطفة التعبیر المکتنزة بالدلالات والرموز والإشارات المباشرة وغیر المباشرة ، التی بلا جدال تترک فی نفس المتلقی أکثر من أثر ومن حرکة وتحلیل وقراءة وصدى ، والمردود الحقیقی هنا معایشة هذا الأثر للعالم الافتراضی الجدید فی ضوء الکلمة الشاعرة ، لاعتبار مهم وهو أن الشعر فی جوهره إنما هو لغة ، أی ولید مخیلة خلاقة ، لا تعمل عملها الفنی إلا باللغة [9] ، مهما کان العمل الأدبی – فی هذا السیاق – شبیهًا بالمغامرة ، وأن منحاه هو منحى الاکتشاف والارتیاد لعوالم جدیدة ، أو مستجدة ، والسفر فی آفاق الدهشة والبکارة ، والثورة على النمطی والسائد والمکرور [10].
وقد رأت الدراسة أن تستفید بالمنهج التحلیلی فی معالجة هذا السمت والاتجاه الفنی الجدید ، والتحلیل هنا سیکون على وجهین الوجه الأول ، هو وجه القراءة الوصفیة للموضوع الشعری الجدید عند أحمد فضل شبلول ، ومحاولة فک رموزه على وجه من وجوه الوعی والدقة ، والوجه الثانی هو الوجه الفنی ، ومحاولة تحلیل نماذجه الشعریة عبر المنهج التحلیلی مع الاستفادة بالمناهج اللغویة المعاصرة مثل المنهج الأسلوبی الحدیث بما یخدم آفاق البحث ومتطلباته .
القصیدة الحاسوبیة عند فضل شبلول [11] :
ألمحنا إلى أن أحمد فضل شبلول وبعیدًا عن کونه شاعرًا متمیزًا من کوکبة شعرائنا المعاصرین ، کرمته مصر وکثیر من البلدان العربیة بمنحه جوائز الدولة والإبداع والتمیز والابتکار ، وعمل فی أکثر من مرکز من مراکز الثقافة والنشر فی مصر والعالم العربی ، إلا أنه مبدع ممن شغلتهم التجربة التکنولوجیة الحدیثة والمعاصرة ، فأسهم فی إنشاء العشرات من المواقع الثقافیة والأدبیة والإبداعیة على شبکة المعلومات الدولیة المعروفة باسم ( الإنترنت ) ، کما أسهم فی نشر نتاج المئات من شعرائنا القدامى والمعاصرین عبر هذه القنوات ، فهو باختصار شغوف بهذا العالم الافترضی الجدید ، أسیر لحبائله وقنواته وأفنیته وروافده ، حتى صار هذا العالم الأثیر یمثل لدیه مرآة من مرایا إبداعاته ، وظلا من ظلال تکوینه الثقافی والأدبی العام ، وهامشا جمالیا ومعرفیا حیًا ، یتحرک فیه بإحساس المبدع قبل المتمرس ، وبوجدان العاشق قبل المجرب ، وبقلب الشاعر قبل المعرفی الشغوف بعوالم التکنولوجیا المعاصرة ، لذلک تراه ینخر فی جسد هذا العالم الجدید من عوالم الاتصال المعاصرة ، لیحیله إلى عالم جمالی حر ینفصل من خلاله عن الواقع المادی الصادم بصلفه ومتاهاته وأزماته ونقائضه وجموده ، ویتخیر لنفسه مکانا فی أفق إسطوری وخیالی وملحمی وشبقی جدید ، یسعى من خلاله إلى تفکیک شفراته ورموزه وتعقیداته ومعادلاته ، وأنماطه المعرفیة التی تعتمد کثیرا على عتبات المباشرة والتنمیط والأحادیة والتأطیر والمواجهة ، لیعیش فی أنموذج جمالی من صنعته ومن خیاله ومجازه الروحانی الخاص ، ومن نتاج إحساسه ووجدانه وشغوفه بعوالم الروح والعشق والجمال والغوایة الإنسانیة ، والرومانسیة بمفرادتها الجدیدة والمعاصرة والحیة ، غیر مستغن أو متجاوز لأدوات البنیة الشعریة الصریحة ، وللفکر الابتنائی للنص ، ولمنهجیته الانسیابیة ، ولإیقاعاته الموحیة والآسرة ، ولطاقات السرد فیه ، وأبنیته الکلیة والجزئیة .. انظر إلى نصه (عتابٌ من سوالب الأسلاک) :
الکمبیوتر الصدیقُ خاننی
لأننی ..
لم أعْطِهِ الإشارة
ولم أبَدل الحروفَ بالأرقام
ولم أبرمج المشاعر
وأطلِقُ الأوامر
* * * * *
الکمبیوترُ الذی ..
علمتُهُ الحنانَ والأمانَ ..
خاننی ..
لأننی ..
أدخلتُ فی اللغاتِ والشرائح الممغنطة
عواطفَ الأزهارِ ، والأشجارِ ، والأنهارْ
وقصة العیون ساعة السَّحَر
ورقصةَ الأغصانِ والأحلامِ والمطر
أدخلتُ ..
واسترجعتُ
بسمةَ العیون
إشراقة الجبین
تکبیرةَ الحنین
نداءَ هذه البحار
الکمبیوتر المحار
علمتُهُ الأسرار
فخاننی ..
ولم یعد یحارْ
* * * * * *
الکمبیوتر الصدیقْ ...!!!
آهٍ من الحدید عندما یخون
آهٍ من الأزرارِ واللوحاتِ والأرقام
أطلقتُ فی السوالبِ الهامدةْ
شعاعَ کهرباءْ
علمتُها البکاءْ
علمتُها الفرح
رافقتُها للبحرِ والرمالِ والضیاء
جعلتُها ..
تصادِقُ النوارسَ المهاجرة
وتطلقُ العنانَ للأفکار
تحبُّ وقتما تریدْ
وتلعب ...
تکهرب القلوبَ وقتما تشاءْ
وتذهبْ ...
تحاور العقولَ والأشیاءْ
وتغضبْ ..
منحتُها السرورَ والغضبْ
منحتها اللعب
وهبتُها ..الذکریاتْ
سألتُها ..
تخزینَ کلِّ لحظةٍ
تمرُ بالشموس والنفوسْ
تسجیلَ أجمل الثوانی
وأفخم المعانی
وأروع الأغانی
فعاتبتْ ...
سوالبُ الأسلاکِ عاتبتْ
تراجعتْ ..
وأصبحتْ حدیدًا
( آهٍ ..
من الحدید عندما یخون )
تبرمجتْ ..
تحولتْ جلیدًا
ولم تزلْ تحنُّ للقصدیر ،
والنحاسِ ،
والمطاط
ولم تزل ..
تحطُ من مشاعر الإنسان
وتطردُ النوارسَ المهاجرة
عن شاطئ الأحلام . [12]
* * * * * *
قراءة فی التجربة المضمونیة :
التجربة هنا فی نطاقها الشعری وسیاقها الفنی ، تستشعر جدتها لیس فقط من صناعة الموضوع الشعری على درجة من درجات الافتتان بفکر المعاصرة ووحیها فی البناء الموضوعی والفنی للنص الجدید ، ولکن تستشعر جدة التجربة فی اختلاجها بفحوى الحرکة الوجدانیة والرباط الإنسانی والنفسی ، وامتشاجها بالرؤیة الانطلاقیة البعیدة والجدیدة فی سیاق الخطاب النصی المعاصر ، وکأنه من خلال نصه یبحث عن نقطة الالتقاء الفریدة بین ضلعی الثنائیة ، ونفی التعارض بین الحقیقتین العلمیة والشعریة [13]، وهی الرؤیة التی فرضت نفسها على سطح المعنى ، وعمق البنیة الفنیة والترکیبیة للنص ذاته ، وهی رؤیة حواریة نجح الإبداع أن یبنیها على محیط الدراما الحکاءة بین صدیقین من جلدتین مختلفتین وفصیلین متناقضین ، تفرد أحدهما بإدارة دفة الحوار ، والبحث عن محاور تفعیله وتخصیبه بخواص القص والحکی ووصولا إلى ذروته فی فرض جدلیة اللوم والعتاب على الصدیق المُعاتب والمُلام ، وارتضى الآخر بالکمون فی مقعد المتلقی ، وملاذ المراقب الآمن ، متعایشا عن بعد أو قرب مع أصداء الخطاب وجدلیاته ومرامیه وأدلته ، ولذا نرى النصیة هنا تمیل إلى سیاق جدید ، سیاق تحکمه مساحات من السرد الشعری المسهب والمطول والمکرور والمُفصل أحیانا والمعتمد على بنیة التمهید والتقدیم النصی والاستهلال المقصود ، وکأنه مهاد لخروج الذات من حدودها الضیقة إلى رحاب العالم الجدید [14] ، ویبدو أن الإبداع وجد نفسه فی ظلال العمل مدفوعًا إلیها دفعًا ، فی سیاق تبریره لسبب رئیس من أسباب التکوین النصی لقصیدته ، وهو تبریره للخصومة والخیانة بین طرفین عایشا معنى الألفة والثقة والحنان والود طیلة عمرهما ، ثم انفصالا وتخاصما لمبعث التقصیر ووقع الخیانة ، ومرادفهما الأثیم ، ودافعهما العقیم غیر المبرر ، فجاء المدخل والعمل ککل رد فعل لصدمة لیست مفتعلة أو مختلقة ، وإن کانت من خیال التجربة الإبداعیة فی النص ، فبتنا أمام أزمة وخصومة لیست من اللون النمطی وإن کانت بطبیعة الحال من صناعة المجاز وخیالاته وتراکیبه ، دفعت المعنى برمته إلى عتبات اللوم ، ووجهات العتاب ، بعد أن ذاق صاحبها ویلات تبعاتها وتنامیها وتزایدها ، لاحظ قوله فی استفتاحیته ، وهی الاستفتاحیة المتکررة على رؤوس الفواصل الشعریة عنده :
الکمبیوتر الصدیق خاننی
..........................
الکمبیوتر الذی علمته الحنان والأمان
.......................... خاننی
الکمبیوتر الصدیق ...
آه من الحدید عندما یخون ...
إذن فهذا الاستفتاحیة المکرورة عبر مداخل النص ورؤوسه ، ترتبط بمعنى یحرکها بلا جدال ، وهو معنى له مفردات متناهیة من معجم تلتئم تفاسیره بالوجع الإنسانی بمعناه الحقیقی ، وما ترکه من أثر على فطرة الإبداع وصنعته ؛ مفردات اختلجت بآصرة نفسیة کشفت عن الخطوط الکابیة لسوءات الخیانة ، ومساربها فی عمق التکوین البشری ، خاصة وهی تدور فی فلک محنة ملاقاة الود بالتجافی والعقوق ، ومعاناة العیش على حافة الصدود ، وهذه البنى التکراریة فی المداخل تلعب وظیفة واحدة تقریبًا تتمثل فی تقریر الدلالة وترسیخها على مختلف صور الحدث وتجلیاته الممکنة ، فیبرز هذا التکرار فی المداخل ، بوصفه طاقة إیقاعیة ، قادرة على طرح مفاتیح الأزمة ، والبناء علیها [15]، وکأننا هنا أمام دفقة شعریة تتعامل مع مجموعة لحظات متباینة فی الإحساس ، تستصفى منها فاعلیتها التداولیة ، لتعود وتصیغها فی بناء کلی یشکل لحظة ممتدة بمتزج فیها المعتاد بغیر المعتاد [16] ، ولذا فقد مثلت لدى المنشئ والمتلقی فی آن واحد غصة من أثر الشکوى وصدى تکرارها ومراراتها ، ومأساة انتفاء المعنى الراسخ للأصالة ، وکأن الإبداع هنا یقودنا إلى إحساسه الإنسانی الخاص أو محنته الذاتیة التی تترادف وإحساس التمزق ، لعجزه عن الملائمة بین منطقه ، ومنطق الآلة ، وقد یکون منطق الآلة هنا هو منطق الوجود الخارجی ، الذی نستشعر فی ظلاله بالضآلة باعتباره وجودًا غیر متناه وغیر ثابت [17] ، وهی فی النهایة محنة تکشف من قریب وبعید عن أثر واقع للعصر المتجدد الذی نعیشه .. عصر المعلومات ، والذی بلغت ذروته فی تضاعیف لوحة الإبداع ، وفی هذا التوحد بین الصدیقین المختلفین اللذین آمنا بعضهما بعضا وخالجا بعضهما بعضا وعایشا تجاربَ واحدة على وتیرة السلامة والصدق حتى بتنا مع تجربتهما لا نستغرب من أن نسمع من الإبداع قوله :
الکمبیوتر الذی
علمته الحنان والأمان ... خاننی
أدخلت فی اللغات والشرائح الممغنطة
عواطف الأزهار ، والأشجار ، والأنهار ،
وقصة العیون ساعة السحر
ورقصة الأغصان والأحلام والمطر [18]
إلى هذه الدرجة من التوحد والتماهی والاختلاج دامت آصرة الود ووشج الارتیاح وحمیمة القبول ، خاصة ونحن نرصد فی متن العلاقة صدى الائتلاف بین الصدیقین فی الفعل والاستجابة ، أو فی الفعل ورد الفعل ، بعدما ذابت بینهما سمحات العطف وروافد الحنان وأواصل الأمان ، وعواطف الکون بروافده وأزهاره وأشجاره وأنهاره ، وقصص عیونه وأسحاره ، ورقصات أغصانه وأحلامه ، انظر إلى إنسیابیة الحرکة النصیة ، وهی تومیء إلى فکرة التبادلیة فی طبیعة العلاقة الراسخة بین الصدیقین ، وطبیعة العطاء على سلامته وسلاسته وطیب متنه وأریحیة خلقته وتکوینه ، انظر کیف وحدتهما بسمة العیون ، وإشراقة الجبین ، وتکبیرة الحنین ، ونداءات البحار وصیحات النوارس والطیور :
أدخلتُ
واسترجعتُ
بسمة العیون
إشراقة الجبین
تکبیرة الحنین
نداء هذه البحار
الکمبیوتر المحار
علمُتُه الأسرار
فخاننی
ولم یعد یحارْ ([19])
إذن فنحن أمام لوحة درامیة بامتیاز ، لم تشکلها فقط سحابات الود ، ودفقات الحنین ، وبسمات العیون ، وتکبیرات العاشقین ، کخلفیة أصیلة للوحة الدراما وأطر الفن ، ولکن حرکتها بوعی بائن هذه البنیات المتوالیة من عتبات الاختلاج بروافد الطبیعة ، على کافة أشکالها وألوانها ، ولو عدنا لمعجم النص سنلمس أن الإبداع ، سَلـَمَ النص برمته إلى أحضان الطبیعة وأفنیتها ، حتى ذابت الفواصل بین المعنى المضمونی بکامل شکلیاته وجدلیاته ، وبین الخلفیة المحرکة للنص کله ؛ ألا وهی خلفیة ( الطبیعة ومعجمها الآسر ) ، حتى باتت روافد الطبیعة هی الخیوط الشعریة الحقیقیة التی تحرک النص و تضاعف دفقاته ، وتنمیها على درجة من درجات الوعی ، وتحدد لون انتمائه النوعی والوجدانی ، ومن ثم توحدت على إثرها الأبنیة الصیاغیة للنص بأکمله وتنامت ایقاعات تشکیلاته ، بحیث سمح تکرارها فرض حال من ثبات الرؤیة ، وتماسک البنیة النصیة فی القصیدة [20] .
إذن فالمعنى هنا بات له طابع ثنائی ، ربط بین خطاب الحاسوب ومعاتبته من جهة ، وبین مفرد ثر من مفردات الطبیعة من جهة أخرى ، فجاء حضور الطبیعة هنا استجابة فطریة لنداء الإبداع ، وهو ما یدفعنا إلى اکتشاف المعنى فی النص ، حینما نرى أن خلفیة أخرى تحدده بشکل حاسم ، وأن المعنى هنا بهذه التداخلیة قد تحول من سیاق محدود ، تحرکه سیاقات العتاب ، إلى معنى غیر محدود تتداخل فیه عناصر أخرى تدفعه إلى التلازمیة النصیة المثالیة [21] .
انظر کیف وفر للمعنى هذه المساحات الجمالیة من عطایا الطبیعة وروافدها ، بشکل یجعل النص على جدیته ینتمی إلى الشبقات السحریة من عوالم الطبیعة أکثر من أی انتماء آخر .. یقول :
الکمبیوتر الصدیق .... !!!
أهٍ من الحدید عندما یخون
أهٍ من الأزرارِ واللوحاتِ والأرقامِ
أطلقتُ فی السوالب الهامدة
شعاعَ کهرباءْ
علمتًها الفرح
رافقتُها للبحر والرمال والضیاء
جعلتُها
تصادق النوارسَ المهاجرة
وتطلق العنان للأفکار [22]
ولجوء الشاعر إلى الطبیعة ( وهو إسکندری النشأة ) إنما کان من حرصه على إکمال لوحته الشعریة على درجة من درجات الوعی بفعل الطبیعة ودورها فی خلق المناخ النفسی والإنسانی والوجدانی الحی ، وفی تجدید منحى السرد الشعری ، خاصة أننا أمام لوحة شعریة ، تتجدد خواصها وتنضج وتتمدد بطول النفس الشعری لدى المبدع ، وطول الفکرة الحواریة المُرکبة بین عناصر الحکی ذاتها ( الذات الإبداعیة – الحاسوب – مفردات الطبیعة ) وکأننا أمام ممارسات شعریة مزدوجة ، تشعر فیها أحیانا بأن الإبداع یعتمد على حدود متعارضة ، ولکن بمعایشة النص یتبدى لنا أن هذه الحدود ما هی إلا تطعیم نوعی لمرکزیة النص [23]. أو فلنقل لسحب المعنى من اختزالیة الاستهلال العام إلى اشتباکیة المعنى الحدثی والحواری المتداخل ، وإلى جدلیة (الحرکة والتجدد ) فی البناء المضمونی والنصی عبر مقاطع العمل [24] ، انظر لقوله وهو یختتم عمله مستفیدا من معین الطبیعة أیضا :
سوالبُ الأسلاکِ عاتبتْ
تراجعتْ
تحولتْ جلیدًا
ولم تزلْ
تحنُّ للقصدیر
والنحاسِ ،
والمطاط
ولم تزل
تحطُّ من مشاعر الإنسان
وتطردُ من النوارس المهاجرة
عن شاطیء الأحلام [25]
والخلاصة المضمونیة هنا أننا أمام شاعر عایش تجربته بصدق وأمانة ، وشخّص عناصرها وتحمل نتیجتها ، وکشف لنا من زاویة إبداعه الشعری عن صورة جدیدة لعلاقة بین مفرد من مفردات البشریة الإنسانیة الحیة التی أبدع الله خلقها ، وبین مفرد من مفردات الصنع والنتاج الإنسانی الجدید ، صورة حکمتها عناصر الجدة والتفرد وعناصر الحکی السردی الشعری المثیر ، والصورة الشعریة النامیة ، ودقة التعبیر ، وبراحة التفاصیل ، التی تقارب فی کثیر من مضامینها روح القصة الإنسانیة فی حبکتها وعقدتها وانفراجتها المأمولة بعد لحظات التأزم ، ولذا تعد هذه البنیة صورة مباشرة لارتباط الشعریة الحدیثة وتجاربها الجدیدة بالأدبیة بوجه عام ، وتقنیات البنیة القصصیة بوجه خاص ، منتجة لونا من ألوان التداخل النصی على المستوى النوعی بین دراما الشعر والقصة ، على أساس من أن أدبیة کل منهما تعد فی حقیقة الأمر بنیة فی العمل الأدبی نفسه ، وبذلک یبتنى العمل الشعری مرتکزًا على ما أسماه جیرار جینیت : التعالی النصی [26] ، فالإبداع – من خلال القراءة النقدیة – اختلق لونا من ألوان التخییل الذاتی ، ولکنه لم یجعل ذاته هی محور العملیة التخیلیة ، مما دفعه إلى اختلاق شخصیة غیر حقیقیة ، وإلى تشیید عالم لیس بالضرورة أن یکون عالمه الواقعی ، وإلى تأثیث فضاء استهواه أو أراده أو تمناه ، وعاش معه تجربته ، واقترن معه بعالم رأى فیه أنه عالم من عوالم الواقع ، وحکم ذلک کله بمعاییر تشبه المعاییر الأخلاقیة ، کحدیثه عن ( الإخلاص والخیانة ) ولکن بقی المقصد عنده هو صناعة الجمال ، والدفع إلى تذوقه [27] .
أطلقتُ فی السوالب الهامدة
شعاعَ کهرباءْ
علمتُها الفرح
رافقتُها للبحر والرمال والضیاء
جعلتُها
تصادقُ النوارسَ المهاجرة
وتطلقُ العنانَ للأفکار
تحب وقتما تریدْ
وتلعبُ .. وتکهربُ القلوبَ وقتما تشاءْ
وتذهب .. تحاور العقولَ والأشیاء ..[28]
والجدة فی الموقف الشعری هنا لا تقف عند فکرة ( الموضوع الإبداعی ) والتکثیف المضمونی ، ورؤاه وآلیات خطابه ، ولکنها تتجاوز ذلک کله بمحاولة الإبداع اللعب على فکرة إثارة الموسوم المادی الحداثی ( الحاسوب ) بروح المشاعر وتوهج الأحاسیس وانفعال الوجدان وشحنه ، والتی بدت هنا مدمجة بالدفع ( الرومانسی ) المعاصر ، ساعده على ذلک إمساکه بأطراف المدلول الموسیقی الحی والمتجدد فی موسیقى التفعیلة ، التی تضافرت مع جذوة الانفعال التی عایشها الإبداع فی مدار حرکة النص ذاته ، حتى أصبح الإیقاع أداة تعبیریة اعتمدت على لعبة المفارقة الحسیة والمعنویة لغة بذاتها ، کما جعل من قبل الإیقاع التکراری قی المداخل خاصیة فی نفسها [29] ، وکل ذلک یمثل فی حد ذاته تنظیمًا للأدوات التعبیریة التی ألح علیها الإبداع طوال العمل ، کما بدت الشخصیة الحکاءة هنا .. شخصیة بارزة متحکمة فی خلق (الفعل ) وعاجزة – فی الوقت نفسه – عن اجترار ( رد الفعل ) .. انظر إلى قوله :
الکمبیوتر الذی علمتُهُ .. الحنانَ والأمانَ .. خاننی
لأننی أدخلتُ فی اللغات والشرائح.. الممغنطة
عواطفَ الأزهار والأشجار والأنهار
وقصةَ العیون ساعة السحر
ورقصة الأغصان والأحلام والمطر
ثم یعود فیقول :
فخاننی
ولم یعد یحارْ
آه من الحدید عندما یخون [30]
ولعل هذه الحیرة ما بین ( الفعل ) ورد ( الفعل ) دفعت صاحبنا فی سیاق الحفاظ على الإمساک بتلابیب الدور ( علمتُهُ ، أدخلتُ ، استرجعتُ ، أطلقتُ ، رافقتُ ، جعلتُ .. إلخ ) وفقدان نتائجه ( خاننی ، لم یعد یحار ) إلى محاولته فی أن یحصر دلالة اللغة ووظیفتها عنده فی مقوم ( أداء الفعل الحرکی ) وکأنه بذلک یرید أن یرتکز على مقاربة سیاقیة تربط بین مباشرة المعنى ، وآلیات تحقیق خطابه النصی ، بخلق دور ( للفعل ) ، فحینما تظهر الذات الحاکیة بدور ( الإیجاب ) نجد ( الفعل الماضی ) یتقدم وجه المعادلة الموضوعیة والشعریة ، وحینما یسقط المحور المضمونی فی فخ انتظار ( رد الفعل ) نجد ( الفعل المضارع ) یتصدر المشهد فی سیاق موازٍ .. حتى تصیر الحالة الإبداعیة رهینة التشویق والانتظار ( تصادق ، تلعب ، تحب ، تطلق ، تذهب ) وکأن الحرکة النصیة هنا تخرج من هیکلة بنیة المضمون إلى عتبة أو درجة من درجات الإیحاء ، بحیث نکون فی النهایة فی حالة نصیة متماسکة تخرج من الصفة الهیکلیة للمضمون إلى الصفة الشفافة الرحبة ، لتوحی لنا فی الختام بأن الإبداع یحاول أن ینقب فی عوالم جدیدة ، تتجلى فیها الدلالة المصاحبة connotation للجانب الذاتی داخل مجموعة لغویة معینة ، بطریقة صیاغیة ساردة وحکاءة ، نجح الإبداع فیها أن یجعل هذا الجانب الذاتی یحمل شحنة انفعالیة تحمل فی طیاتها دلالات مصاحبة للدور الموضوعی ، ودور شخوص الحکی .
کما حمل هذا التنوع فی الاعتماد على جملة الفعل ، والتحرک بین أداء الجملتین الماضیة والمضارعة ، ما بین الاستقواء بأداء الفعل الماضی ، والرضوخ لرد الفعل المجافی المتمثل فی الفعل المضارع ، إلى توظیف قدراته الالتفاتیة طوال النص ، ما بین الاستفتاحیة التی أتى فیها بالنتیجة مسبوقة على الحدث ، مع الکشف عن طبیعة دوره وقدراته الاستباقیة ، إلى الرضا – فی النهایة – بأحکام الختام .. انظر إلى قوله فی مطلع العمل وهو یتحدث عن صدیقه الحاسوب بلغة الغائب :
الکمبیوتر الصدیقُ .. خاننی
لأننی لم أعْطِهِ الإشارة
ولم أبدلْ الحروفَ بالأرقام
ولم أبرمجْ المشاعر
وأطلِقُ الأوامر
ثم انظر إلى روح الالتفات الحواری .. فی قوله :
سألتُها تخزینَ کلِّ لحظةٍ
تمرُ بالشموسِ والنفوسْ
تسجیل أجمل الثوانی
وأفخم المعانی
وأروع الأغانی [31]
فهذه الروح الالتفاتیة إنما تبرز عنصر التحرک المزدوج بین مطلع العمل واستفتاحیته ، والتی استباح فیها قدراته ، واستنهض عزائمه ، واستعرض مهاراته ، وبین سرد الخواتیم ؛ التی - للأسف - حصد من ورائها مثالب ضیاعه وأنکاء خسارته ، کما کشف هذا التحرک المزدوج من زاویة أخرى عن إصراره طوال العمل کله على تدعیم دوره وإذکاء نیته بحد یقینی صادق للوصول إلى النتیجة الفارقة فی ختام القصیدة وهی:
تراجعت .. وأصبحت حدیدًا
آه من الحدید حینما یخون
تبرمجتْ .. تحولت جلیدًا
ولم تزل تحن للقصدیر ، والنحاس ، والمطاط [32]
وهذه اللمحة الالتفاتیة القائمة على الاستفادة من بنیة الفعل بصفة عامة ، وعلى رمز المفارقة الضمنیة مرة ، والصریحة مرات ، نجدها مکرورة على مساحة النص بأکمله ، من خلال المد السردی الشعری المسهب ، وقدرات الإبداع على التولید ، والتی یأتی فیها الالتفات کعلامة دالة على صراع النفس البشریة بکامل أحاسیسها مع الموجودات المادیة الجدیدة ، ولذا جاء الالتفات متنوعا ومتنامیا ومستدارًا على کافة وجوه النص .
*------ *------- *------- * ------ * -----
قراءة تحلیلیة فی تجربة جدیدة :
ولا تقف تجربة الشاعر عند هذا الحد النصی المتمیز والجدید ، ولکننا نراها تتکرر بأکثر من صورة ، وأکثر من لون من خلال أعماله الشعریة المختلفة ، ومنها هذه التجربة الجدیدة ، والتی تحمل عنوان (مطایا للحواسیب) ، وهی تجربة صبغها الشاعر بصبغته الشعریة الإنسانیة المتجددة ، وبإحساسه الحی ، وبوجدانه الفرید والمتجدد ، وبصنعته الفنیة الشائکة المختلجة بملامح الدمج بین معانی التجربة الإنسانیة ذات الخصوصیة الشدیدة وبین الدفع بمفردات التعبیر عن عناصر الوسیلة التی ینفد إلینا منها – کمتلقین – إلا وهی (الحاسوب) لیشرک هذه الآلة الجامدة فی مدار تجربته بفنیة جدیدة وبصنعة مخصوصة ، ونجح من جدید فی أن یضفی علیها روح القصة وأطیاف الحکی ، وإن کانت روح القصة فی هذا العمل جاءت مُغلفة بإطار من رموز الأساطیر القدیمة ، ومن فنیة حبکتها .. یقول شاعرنا أحمد فضل شبلول :
سألقی کلَّ أوراقی
إلى نیران حاسوبی
وأغلق کوکبَ الأشواقِ فی صدری
وأخرجُ من دهالیزی
إلى أسرارِ نافذتی
وأیقونات أحلامی
* * * * * * *
هنا تتحدثُ الأقراصُ عن عمری
وأما الشمسُ .. فقد نامت على حجری
فیصحو فجرُ أقماری
وتضحکُ فی أدِلَّةِ صبحی العاری
مصابیحٌ .. ملفاتٌ .. وأسلاکٌ من الأشباه
فلا زادٌ .. ولا عطشٌ .. ولا .. آه
بلى ..
صحراءُ قلبی فی بساتینٍ ..
تجیءُ الآن نحو الشاشةِ الصغرى
فلا تنظرْ إلى عینی
ولا تقرأ مسافاتی
ولکن ضعْ مفاتیحی
على الإصبعْ
و لا تفزعْ
ولا تقنعْ
بکل المِلحِ والسکرْ
فمائی الآن من عَنبرْ [33]
فالنص الشعری هنا یدور عبر مدارین للحکی والسرد الموضوعی ، مدار یعبر الإبداع فیه عن فحوى الإحساس بشعور الشغف لتقییم ( مشوار عمره ) من زاویة الآخر - وإن کان من غیر طبیعته وجلدته وجنسه – لصدقه فیه ، واقتناعه بدوره فی حیاته ، بعد رحلة عطاء إنسانی استشعر فیها طولها وتناقضها وتخالجها على أوتار العناء والتعب والحرمان والکمون الذاتی ، وفقدان الأحبة والقرناء بعدما باتت الأشواق حبیسة فی قلبه ، سجینة ضلوعه وصدره ، مما أجبره – عن غیر طواعیة - إلى سکنى (الدهالیز) والخروج من کوکب المشاعر وفلک الإنسانیة الرحیم إلى العالم الافتراضی الجدید .
ومدار آخر یلجأ فیه الشاعر إلى صدیقه (الحاسوب) بکل ما فیه من وهج وألق وانفتاح على عوالم الغد ، لیستشرف له من خلال توهجه مستقبل عمره القادم ، وأوراق حیاته الباقیة ، وسطور سعادته ، و مراسیم شقائه ، وخلاصة تجربته وعنائه ، ویتبدى ذلک فی قوله فی استفتاحیته :
سألقی کلَ أوراقی
إلى نیران ِ حاسوبی
وأغلقُ کوکبَ الأشواقِ فی صدری
وأخرجُ من دهالیزی
إلى أسرار نافذتی
وأیقونات أحلامی
هنا تتحدث الأقراص عن عمری [34]
إذن فالحاسوب – هنا – قد صار عرافا وصار صاحبه شغوفا بقراءة أحداث عمره وأصداء حیاته ، وأوراق أیامه من خلال شاشته الصغیرة ، وأضوائه الجاذبة ، وأیقوناته المتشابکة ، وأقراصه الحاکیة وإلا ما قال : ( سألقی کل أوراقی .. إلى نیران حاسوبی ) کما صار الحاسوب هنا مناط صدقه الوحید وملجأه فی زمن عز فیه الصدق وغاب الألیف وجف الود وندر القرین ، ومن ثم فلا مانع من أن یغلق الإبداع کوکب الأشواق فی صدره ، وأن یخرج من دهالیز عتمته ، ومسالک ظلامه وتیهه ، وأن یضم الشمس ویحتویها فی حجره انتظارًا للفجر الجدید ، ولتنتظر الشمس هی الأخرى معه بشغف یماثل شغفه قراءات الحاسوب وتأملاته ورؤاه عن ماضی الرجل ومستقبله وغیبه البعید ، ونصیبه من الشقاء والسعادة عبر الملفات والأسلاک والومضات والإشارات والأقراص .
والغریب أن الإبداع فی قلب هذا الحدث الشغفی المجنون ، وفی زمن انتظاره الحثیث لرؤى شبکات العنکبوت ، یقلب الموازین فی مفارقة شعریة نادرة وفی صیاغة مثیرة للدهشة وسریعة الإیقاع ، فبعدما کشف لنا فی مطلع عمله عن رحلة شقائه وعنائه الطویل فی ماضیه الساخن ، نراه یباغتنا وفی مقابلة غریبة ، وهو ماکث أمام عرافه الجدید ، برؤى المستقبل الجدید المنساق عبر ملامح الأمل وعلاماته وتباشیره فی الغد القریب ، ویتجاوز مسافات محنته ، ویعبر صحراء حیاته ، ویسقی ورود أیامه ، بعدما ضاق من مرارة الماضی الکئیب العتیم ، وبات أسیر مستقبله الوثیر ، وهو یسرق بعینیه رؤى الشاشة الصغیرة وما تخبره من أحلام وآمال وتفاسیر ، کلها تتحقق بلمسة على لوحة المفاتیح .. یقول :
صحراء قلبی فی بساتین
تجئُ الآن نحو الشاشة الصغرى
فلا تنظرْ إلى عینی ، ولا تقرأ مسافاتی
ولکن ضع مفاتیحی على الإصبعْ
ولا تفزعْ ، ولا تقنعْ ، بکل المِلحِ والسکرْ
فمائی الآن من عنبرْ [35]
والعمل کسابقه تحرکه شحنات الفعل الحرکی السریع .. الدافع لحرکة السرد إلى مسافات بعیدة ، غیر مُتخیلة ، وإن کان أهم ما یمیزه هو أن الفعل الحرکی هنا ساق العمل بأکمله إلى عنصر ( المفارقة ) فی النهایة ، لیقلب العمل بأسره ، وفی ومضة شعریة سارقة إلى لحظة مباغتة خاطفة ، ضاعت معها واختفت سنوات العناء والجفاء ، وأعمار الضیق وأزمان الضجر والحرمان النفسی ، لیصطخب الجدل بین فکرة رفض الماضی ، واستشراف الحاضر والمستقبل ، أو بتعبیر آخر بین عناصر الثبات وعناصر الحرکة ، تفنى فیها عناصر وتتخلق أخرى ، وتتحد فاعلیة العناصر المتولدة ، بمقدار ما تقتضی من رؤى ، وما تحتوی من ملامح الکشف ، وطاقات التعبیر [36] ، وکأننا أمام عمل شعری تحرکه دوافع مزدوجة ، ووتریات تعزف على أنغام الخلاف والتناقض ، ما بین الرفض والتجاوز لأصداء الماضی العتیم ، وبین الاستشراف للمستقبل الجدید ، وقد تکون هذه الوتریات التناقضیة الفارقة على سرعتها ، تحمل معنى النبوءة بأن السرد قد ابتدأ من لحظة الحاضر ، رافضا الارتداد للماضی الکئیب بکل عذاباته ومحنه وهمومه وأزماته ، وتحاول الهروب منه إلى اللحظة المعایشة والمستقبل الفرید والمأمول ، الذی بدل الغیوم ومحا سحبه وبروقه وحوله إلى صحو مشرق فی لحظة خاطفة ، وهذا ینفتح على دلالات عدیدة ، منها منح المتلقی فرصة استیعاب الدهشة الحاصلة فی هذه المفارقة النادرة ، وتنشیط المشاهد الکاملة بین وقائع الماضی ، واستشراف الحاضر ، وزیادة على ما سبق تأجیج الاحتشاد النفسی لقراءة المستقبل بکل غیوبه ، فأشاع عبر النص جوًا من أجواء التیه والترقب لانتظار المجهول [37] ، عبر عنها الشاعر فی أربعة أسطر شعریة متراکمة وفارقة فی قوله :
لا تنظر إلى عینی ، ولا تقرأ مسافاتی
ولکن ضعْ مفاتیحی على الإصبعْ
ولا تفزعْ ولا تقنعْ ، بکل الملح والسکر
فمائی الآن من عنبر [38]
انظر إلى عنصر السرعة الفعلیة وحرکتها ( لا تنظر ، لا تقرأ ، لا تفزع ، لا تقنع ، ضعمفاتیحی على الإصبع )، فالشاعر هنا یبدو کمن یتحرک بین عمق العمل وسطحه فی لحظة خاطفة ، یحاول فیها وقد غلبته فی مطلع العمل النزعة الإخباریة فی بنیة سرده الشعری ، أن ینحاز ویصحو على نغمة التلون السحری لأداء الفعل ، والانحیاز إلى الأبنیة العمیقة التی مالت فیها الصیاغة إلى قوالب الحرکة ، وحلقت فی أفق الجمالیة الشعریة الشغوفة بعناصر العدول عن أصل الواقع واللحظة الحانیة إلى وضعیة الأمل ، الذی خلصها من سکون الماضی وجفوته وهمومه ، وکأنه هنا یرتقی بالنص صعودًا ، رافضًا جهامة الحیاة فی ماضی العناء والشظف ، ومستشرفًا الأمل فی الغد القریب [39] .
إذن فالنص بمثل هذه البنیات تحول إلى نص جمالی على درجة من درجات الوعی ، مطابقا لفکر صاحبه ورؤیته الخطابیة ، وهذا الذی دفعه إلى اقتناص بعض التراکیب ، مثل تنویعه فی توظیف حرکة الأفعال ، التی ساعدت على نقل النص إلى وعی القاریء ، أو قلصت المسافة بین النص والمتلقی [40] .
ویبقى أن نشیر إلى عنصرین ساعدا على تکوین دائرة المفارقة ، وعلى اکتمالها ألا وهما عنصرا الموسیقى والخیال ، فقد جاءت موسیقى العمل بإشاراتها التفعیلیة متناغمة مع عنصر السرعة المباغتة والمرتبطة بالبنیة الفعلیة للقصیدة ، خاصة مع اعتماده فی معظم العمل ، على کسر حرکة التفعیلة ضمانا لفرض خصوصیة الأداء الشعری والنغمی ، والأداء الحاضر للمتکلم ، وتحکمه فی حرکة الفعل نفسه وفی مرکزیة دلالته .. انظر إلى قوله
سألقی کل أوراقی
إلى نیران حاسوبی
وأغلقُ کوکب الأشواق فی صدری
وأخرج من دهالیزی
إلى أسرار نافذتی
وأیقونات أحلامی
هنا تتحدث الأقراص عن عمری [41]
فنلاحظ هنا أن سیطرة ضمیر ( الامتلاک ) یحفظ للعمل طابعه الحکائی ، حتى یظهر العمل بأکمله ، وبمفارقته المحرکة للأحداث ، کالقصة القصیرة فی دوافعها المضمونیة والفنیة ، ویبدو أنها محاولة من الشاعر لإرداف المعانی العمیقة أو إنتاجها على درجة من درجات الوعی ، وخاصة أنه یحلق فی أفق شعری ذی دلالة خاصة فی تعامله مع المؤثر الفاعل ( الحاسوب ) ، وهو مؤثر حاضر بلا خلاف ، وإن کان هو فی الواقع عضوًا غریبًا ، وشاذا فی مسیرة الخطاب الشعری العربی ، مما یجعلنا نستشعر بأن موسیقى العمل ، والخیال فیه ، یحاولان مع إرساء فکرة الدفع بالمعنى العمیق إلى منطقة الحدث الشعری ، تغییر مسار العمل من منطقة (التجرید ) إلى منطقة ( الواقع ) ، خاصة فی سیاق الخطاب الشعری ، حتى أصبح الحاسوب هنا ( حالة ملازمة ) تحول فیها إلى عضو فاعل ومؤثر فی سیر الحدث الشعری من زاویة المضمون ، ومثل هذا التحول یأخذ الدفقة الشعریة من رحاب (الحلم ) إلى رحاب ( الواقع ) بلا خلاف بکل إمکاناته وقدراته غیر المتصورة ، حتى أصبح هذا الفاعل الغریب (الحاسوب) یمارس دوره بحریة بشریة دافقة تتجاوب مع بشریة المبدع لیلجا معًا منطقة ( النشوة المقصودة )[42] ، ومن هنا استحالت التجربة الموسیقیة إلى فکرة تحمل صدى لعاطفة الشغف المسیطرة على الشاعر ، کما تعکس فی الوقت نفسه أن الإبداع حینما شرع فی نسج قصیدته کان رهین انفعاله وإحساسه خاصة فی مطلعها ، ونجح فی تجسید هذا الانفعال فی إیقاعه المکسور والسریع المتوافق مع دلالاته النفسیة والوجدانیة .
أما الذی یمنح هذا العمل بکامل طاقاته اللغویة والإیقاعیة درجة التمیز والتفرد فهو دورانه فی أفق الخیال الواعی ، خاصة أننا أمام موسوم حاضر وخفی فی الوقت نفسه ، له دور محفوظ ومؤثر فی حضوره وغیبته ، وله أدوار فاعلة فی المقام نفسه ، ونقصد به ( الحاسوب ) ، فقد نجح الشاعر من خلال منظومة الخیال فی القصیدة فی الانطلاق بالعالم الشعری المختلج بذاته – عالم الحاسوب –إلى عوالم أخرى تفضی إلى الإیهام مرة ، وإلى الخطاب الواعی مرات ، لا لشئ إلا أن الخیال فی مثل هذه المواضع الشعریة النسبیة یعتبر لونا من ألوان المحاکاة للمقام الموضوعی للحدث بالدرجة الأولى ، لاعتبار قصده وهدفه ، وهو - کما نرى - مقام جدید ، ویبدو أن أحمد فضل شبلول قد رأى أن العملیة التخیلیة هنا لن تکون ، ولن یستوعبها المتلقی إلا إذا جاءت فی رعایة العقل ، بمعنى أن المبدع یأخذ من القوة المتخیلة مادته الجزئیة ، ثم یعرضها على عقله ، أو یترکها للقوة المائزة والقوة الصانعة لتلائم بین عناصر الموضع والنظم والتراکیب والمعانی ، وعن طریق ممارسة القوتین دورهما فی ضبط معطیات التخیل عندالشاعر وتنظیمها وتوجیهها ، یمکن للقصیدة أن تؤثر فی القوة المتخیلة عند المتلقی [43]، مما یؤدی إلى اتخاذ المتلقی وقفة مع إشارات عالم التخییل من زاویة رد فعله .
وإذا نظرنا إلى موضوع الخیال هنا فسنجد الشاعر مهموما بموضوعه التخیلی من خلال دافعه الحماسی الذی استشعرناه من خلال حرکة الفعل ، والتی أدت بطبیعة الحال إلى دوران صورته فی محور انفعالی استلهمناه من مطلع القصیدة ، وکأننا أمام عملیة إیهامیة فی الأصل ، تتحرک فیها الصورة فی شکل اندفاعی تراکمی ، تهدف فی الأساس إلى مشارکة المتلقی فی موضوع الإثارة والجدة التی تدور حولها الأبیات ، والتی استحال فیها الموصوف والمحرک والفاعل ( الحاسوب ) إلى عراف یستشرف آفاق العمر والمستقبل ، وهذا ما عایشناه من مطلع العمل فی قوله :
سألقی کلَ أوراقی
إلى نیرانِ حاسوبی
وأغلقُ کوکبَ الأشواقِ فی صدری
وأخرجُ من دهالیزی
إلى أسرار نافذتی
وأیقونات أحلامی
هنا تتحدثُ الأقراصُ عن عمری
أما الشمس فقد نامت على حجری [44]
ونلاحظ هنا أن الفعل الحرکی صبغ – هو الآخر – الصورة باللون الحرکی حتى باتت ( الحرکة النصیة ) فی أداء المتکلم محورًا رکیزًا من محاور الخطاب الشعری ، التی تعکس فی الجانب المضمونی رغبة الإبداع الأکیدة فی تجاوز رحلة الماضی إلى بستان الحاضر وحدائق المستقبل ، ولذلک فصاحبنا ... (سیلقی بأوراقه إلى نیران حاسوبه ، وسیغلق کوکب أشواقه ، وسیخرج من دهالیزه ، وستتحدث الأقراص عنه ، وتنام الشمس فی حجره) .. وهنا یجب أن نشیر إلى أن الولع باللغة ، والاعتماد کثیرًا على بنیة الأفعال ، لم یکن ولعًا مجانیًا ، بل ولع یوظفه الشاعر لنقل رسالة وتحقیق غایات بلاغیة بدایة من العنوان [45] .
فالصورة هنا بصبغتها التشخیصیة فی مدخل قصیدته إنما تکشف عن بُعد رئیس من أبعاد الدلالة فی خطابه الشعری ، وهو البعد الذی یقصده الشاعر کثیرا ، ویمیل فیه إلى إیهام المتلقی بالمبررات التی دفعته إلى التعایش مع صدیقه الذی لجأ إلیه بعد أن لفظ ماضیه ، وتحرر منه ، ومن أشواکه وأشواقه وأحلامه ومعانیه ، ودهالیزه المظلمة ومسالکه المتشابکة ، وصحرائه الجافة ، وعایش مستقبله من منظور العراف الجدید الذی یستشرف معه ومع أقراصه رؤى المستقبل والغیب البعید ویرضى بها وعنها .
إذن فأحمد فضل شبلول یراهن هنا على خبراته فی نسج الصورة وفی خبرة المتلقی فی التعاطی معها فی آن واحد ، فربط – على مستوى اللاوعی من المتلقی – بین الخبرات المختزلة والصور المخیلة ، ظنا منه أنه یحقق بذلک الإثارة المقصودة ، وهی طریقة خاصة فی مثل هذا النوع من الشعریة ، إذ تنقلب فاعلیة الصورة تبعًا للنسق الذی یتم توظیفها فی إطاره ، ومن ثم یصبح بوسعنا أن نقول إن هناک نتیجة ملازمة بین الصورة والبنیة التعبیریة على المستوى الدلالی [46] ، خاصة – وکما أشرنا مسبقا – بأننا أمام فاعل مجهول الهویة والجنس (الحاسوب ) ولکنه ذو فاعلیة شدیدة الأثر فی تحریک الأحداث وفی إیهام الإبداع بصدق نوایاه ، وواقعیة احتماله ، وفی تحقیق مراده على درجة من درجات الیقین والصدق ، ولذا فالإبداع فی حضرته یستشعر بأن صحراء قلبه قد باتت فی بساتین وریاض ، بمجرد أن اقترب من شاشة حاسوبه الصغرى ، وبعد أن وضع أصبعه على المفاتیح ، فانفجرت أنهار العنبر ..
صحراء قلبی فی بساتین
تجئ الأن نحو الشاشة الصغرى
لا تنظر إلى عینی ولا تقرأ مسافاتی
ولکن ضع مفاتیحی على الأصبع
فمائی الأن من عنبر [47]
فمثل هذه الصور التی تجمعها بلا شک محاور الصورة الکلیة تشعرک بأن النفس هنا تنبسط سعادة من غیر رؤیة محددة أو مسالک بعینها تنقلها إلى عالم السعادة ، أو فکر واختیار على مستوى اللاوعی ، ولا شک أن هذا الکلام یتوازى مع المقولة الأرسطیة التی تؤکد أن الإنسان یتبع تخیلاته أکثر مما یتبع عقله أو علمه .
* --------- * -------- *--------
قراءة فی تجربة أخرى :
وقریب من هذا العمل نقرأ له فی موقع آخر من الدیوان نفسه قصیدة أخرى بعنوان (الحاسوب وأحلام الدوائر ) ، تنطلق فی سیاق قریب من سیاقات الدوائر المعرفیة التی یهیم بها کثیرا ، والخیوط التکنولوجیة المتعایشة معه ، والمتعایش معها على درجة من درجات الوعی ، والتی دفعته إلى زاویة ( الغوایة ) فی طبیعة معالجاته الموضوعیة لقضایاه الشعریة ، والتی تشعرک حتى فی بنیة تراکیبه الفنیة بأنه قد وقع أسیرًا فی حبائل ( اللغة المرآة ) فی جم أعماله ، وهی اللغة التی تکشف بأن دیوان شبلول فی القصائد الحاسبویة اعتمدت الحرکة السردیة فیه على الدوائر اللغویة المنغلقة أحیانا ، والمنفتحة فی أحایین أخرى ، وکأنه بذلک یشاکل بالمعجم اللغوی صفة الواقع التکنولوجی والاجتماعی المعاصر ویُسقط بوساطة الألفاظ النحویة وحرکة الأفعال دلالات من صمیم الواقع المعاصر [48] ، وبالأسلوب الجدلی نفسه وکأن شاعرنا قد عاش فی منطقة خارجیة یرقب فیها الکون من جزیرة معارفه ، أو من کوکب أحلامه ، ولذا کثیرًا ما یتبدى دوره الشعری فی هذا النمط الفنی فی دور المتلقی ، فهو ینصت إلى الکائن المعرفی الذی یخاطبه ، ثم یتجاوب معه ، وتکون حرکته فی المردود الشعری والسیاقی عبارة عما یمکننا أن نسمیه بـ ( رد الفعل ).. یقول :
ها هو الحاسوبُ یَهْمِی
بمرایا المعرفة
وغدًا ... نسهو عن البحر
ونجری ..
فوق أشواکِ النجومِ الزائفة
تصعد الشمسُ من البرج الأخیر
تغربُ الیومَ على سطح الدهور
وتُعادی الحدقات المرهفة
وتدور ...
حول أکوانِ الصخور
وتهادی الدفءَ للمدفوء شمسا
وغدًا ...
نتبارى کالحیارى
حول إشعاع العبیر
وبقایا ما تبقَّى من هجیر
ونهاجرُ ...
لتلالٍ من رزایا
تمرحُ الآن على صدر البغایا
وغدًا ..
نتحاورْ ..
نتقاتلْ ..
حول جدوى الحبِّ والإحساسِ فینا
حول معنى اللانهایة
وأغانی الصبح والأحلام ..
والذکرى الجمیلة
* ---- * ---- * ----- *----- *
إنها الأیامُ تَسْتَفتی قلوبَ الأجهزة
إنه الحاسوب یستعدی سلوکَ الذاکرة
ویخوضُ البحرَ نارًا
ویداوی العشقَ بَتْرا
إنه الحاسوبُ
کالعنقاء
یختالُ انصهارا
إنه ..
لعبةُ العقل المبین
أبدًا لا یستکین
وینادی شوقَ ظمآن إلى جسر لدائن
هکذا ..
تسری جراحاتُ المدائن
فی خلایا الیاسمین
* ---- * ---- * ----* ---- *
إننا الآن نحاورُ
هذه الأضلاع فینا
ونُبیحُ البیع فیها
تحت أنْاتِ المجاهر
إننا الآن نغادر
لقناةٍ من أوامِر
وشعاعٍ من زئیر
وغدًا ..
نتباکى .. نتآمر
حول خیطٍ من حریر
شدَّه الإصبعُ من خَصْرِ العذارى
ورماهُ .. فی لیالی الزمهریر
فانْتفضْنَ الفجرَ خوفًا
وارْتعشْنَ الصبحَ ذعرا
تحت مصباح الأسارى
فلماذا ..
یرحل الحاسوبُ
فی عمق البصائرْ
ویصادرْ ..
کلَّ أحلام الدوائر .. ؟ ([49])
* ---- *----*----*----* ---- *
ولو نظرنا إلى طبیعة الحرکة الموضوعیة فی سیاق موضوعه الشعری فی هذا النص ؛ سنجد أن الإبداع هنا تحرکه تلک التجربة الخاصة بأبعادها الحیویة الجدیدة ، التی دفعت شاعرنا إلى ابتکار خصیصة فاعلة لرسم استراتیجیة خطابه الشعری على المدى الذی یمتد فیه حضوره النصی بأکمله ، وتدریجیًا یکتمل فیه بناؤه السیاقی ، والاستراتیجیة هنا تکتسب منطق الخصوصیة فی صنعة البناء النصی لسبب جلی ألا وهو قدرته على النفاذ إلى محور التجربة ، وقاعدة انطلاقها ، منطلقـًا بطبیعة الحال من وحی خبراته ، ولیس من خلال أفعال عقلیة جرداء على حد تعبیر ( هوسرل ) [50]، والتجربة هنا تتمحور حول فکرة لا نستطیع أن نصنفها فی حرکة البناء الشعری باعتبارها تجربة جدیدة ، ولکننا ننظر إلیها باعتبارها تجربة نجحت فی نقل النص بأکمله إلى فضاء الموضوع ( المعرفی ) من مطلعها .. انظر لقوله :
هاهو الحاسوب یهمی
بمرایا المعرفة
وهذا ما یمکننا مرة ثانیة أن نسمیه بـ ( الفعل ) أو الحدث ، وانظر إلى رد فعله باعتبار أنه بحق یؤدی دور المتلقی فی حرکة القصیدة بأکملها :
وغدًا.. نسهو عن البحر
ونجری ..
فوق أشواک النجوم الزائفة [51]
وکأن رد الفعل هنا یعکس حسًا تناقضیا فی مسألة الأدوار التی تتجاذبها هنا أطراف الحکی فی النص الشعری ، الحاسوب کصاحب دور ، وقرینه کمتلق ومتحدث ومتجاوب ، وحس التناقض هنا قائمٌ بالفعل على فکرة الأدوار ، فالحاسوب یهیم بمرایا المعرفة ، ویشی بدروبها ومسالکها ومرامیها المستقبلیة ، أما نحن فمازلنا نبحث عن (النجوم الزائفة ) فی دنیا الوجود ، وعالم الرؤى والأحلام والنجوم والنسائم ، والصباح الجدید ، وإن کان الإبداع هنا فی حرکته السردیة قد فقد حاسیة الامتلاک فی خلسات تجاوبه وتحاوره وتباریه ، مع صاحبه الهائم بالمعارف ، وسقط من معجمه مفرد ضمیر ( الأنا ) ، فتحدث بلغة الجماعة ( نسهو – نجری – نتبارى – نهاجر – نتحاور ... إلخ ) ، مستغلا الرمز الإشاری عبر تدرج مستویات اللغة التی تنمو ، وتتعدد مستویاتها وإشاراتها [52] ، لیصل فی الختام إلى خصیصة رؤى التناقض ، وهی أننا شغلنا أنفسنا بوجه الوجود وظاهره ، فبتنا نتبارى حول معانیه ونتحاور حول مراقیه ومراسمه ، ونتعایش فی ظلال عبیره وهجیره وتلال حزنه ومآسیه ، نمرح مرة على صدور البغایا ، ونتحاور مرات حول جدوى الحب ونفعه ، وصدى الإحساس فیه ، ونتقاتل حول أصل الکون ، ومعنى اللانهایة فیه .. هاهو یقول :
نتبارى کالحیارى
حول إشعاع العبیر
وبقایا ما تبقَّى من هجیر
ونهاجرُ ...
لتلالٍ من رزایا
تمرحُ الآن على صدر البغایا
وغدًا ..
نتحاورْ ..
نتقاتلْ ..
حول جدوى الحبِّ والإحساسِ فینا
حول معنى اللانهایة
وأغانی الصبح والأحلام ..
والذکرى الجمیلة [53]
إذن فمحور الجدل فی مدخل النص قائم على فکر التناقض فی لعبة الأدوار ، بین الصدیقین الحمیمین ، فالحاسوب مهموم بزوایا المعرفة ، ومدارک الاستشراف فیها وصدیقه أسیر لمعنى الوجود الحتمی ؛ حائر بین مفرداته ومرامیه ، حتى فی مفاهیم العشق وجدواها ، باتت الصورة عنده ضبابیة ، هل هی على صدور البغایا أم على المعنى الحقیقی للعشق ، وطبیعة الإحساس فیه ، وعلَّ هذا المدخل هو الذی یقودنا إلى عمق النص بجدلیاته ، خاصة أن مقاطعه تتراتب على بعضها البعض ، وتبدأ من حیث تنتهی ، وکأننا فی دائرة لا ننفک من الخروج منها ، حیث تتوالى أشکال التوازی التعبیری فی صیغ جدلیة ، أو حواریة ضمنیة تتخلل نسیج السرد الذی یتکئ على حرکیة الحدث وزخم تتابعه [54] ، وکأن فی النص سؤالا خفیًا ، عن لعبة الأدوار ، وصلتها بفکرة الوجود ، خاصة بین حمیمین على طرفی تناقض ، أحدهم شغوف بالمعارف ، یستعدی المشاعر ، یداوی العشق بالبتر ، والآخر مازال یهیم فی مفاهیم الهوى ، وجدوى الحب ، ومعنى اللانهایة ، وأغانی الصباح ، انظر لقوله وهو یوجز کل هذه المرادفات مدمجة بحرکة الزمن :
إنها الأیامُ تسْتفتی قلوبَ الأجهزة
إنه الحاسوبُ یستعدی سلوکَ الذاکرة
ویخوضُ البحرَ نارًا
ویداوی العشقَ یَتْرا
إنه الحاسوبُ
کالعنقاء
یختالُ انصهارًا
إنهُ ...
لعبة ُ العقلِ المبین
أبدًا لا یستکین
وینادی شوقَ ظمآن إلى جسر لدائن
هکذا ..
تسری جراحاتُ المدائن
فی خلایا الیاسمین [55]
ویبدو أن الإبداع بعد هذین المقطعین ، وفی مقطع الختام لم یجد بدًا من التوحد والالتحام والانصهار مع هذا القرین المختال بلعبة العقل ، والمتباهى برؤى الغد الجدید ، والمفارق لشبق الحس والعشق والشوق ، بعدما فرض هیمنته علینا ، وصادر أحلامنا ، وخالج ذاتیتنا ، وعایشنا بمنطق قوته ، وعایشناه بفرضیة الشغف والاستسلام .. فبات ضلعًا من ضلوعنا ، ولذا فلا غرو من محاورته ، ومسامرته ، ومخاطبته ، على درجة تقارب درجات وعیه وحضوره وتأثیره ، وأن نغادر کوننا کون المشاعر لکون الأوامر ، ونذوب فی وهج الأشعة ، بدلا من الذوب فی وهج العذارى والحالمین والمتعطشین ، ویبدو أن حرکة السرد النصی هنا قد عادت إلى لحظة الحاضر ، مجافیة الماضی الجمیل ، بفعل حرکة الزمن ، وقوى الإدراک ، وزخم المعارف ، متکأة على لعبة (المفارقة) والتباین بین زمن ( الواقع المعرفی الجدید ) وزمن ( المشاعر وأغانی الصباح وأحلام العشق الوثیر ) فی ازدواجیة جدیدة حرکتها فرائد الوعی ، وحتمیة الواقع ، فانعکست على بنائها الفنی وخطوطها الدالة ، والدلالة هنا أراد الإبداع أن یراوحها بین عنصری الغیبة والحضور ، والواقع والخیال ، والحس والجمود..مستغلا طاقات التعبیر عن ذلک کله بصیغة الغائب ( أنه .. إنها ) ، باعتبار أنها الصیغة المثلى للسرد الشعری [56] فی مثل هذا الزخم التعبیری بترادفیة التناقض .. یقول :
إننا الآن نحاورُ
هذه الأضلاع فینا
ونُبیحُ البیع فیها
تحت أنْاتِ المجاهر
إننا الآن نغادر
لقناةٍ من أوامِر
وشعاعٍ من زئیر
وغدًا ..
نتباکى .. نتآمر
حول خیطٍ من حریر
شدَّه الإصبعُ من خَصْرِ العذارى
ورماهُ .. فی لیالی الزمهریر
فانْتفضْنَ الفجرَ خوفًا
وارْتعشْنَ الصبحَ ذعرا
تحت مصباح الأسارى
فلماذا ..
یرحل الحاسوبُ
فی عمق البصائرْ
ویصادرْ ..
کلَّ أحلام الدوائر .. ؟ [57]
إذن فنحن أمام نص جدلی ، وإن اتخذت الجدلیة فیه سیاقـًا تقابلیًا دالا ، أتى فی الأغلب على مورف ضمنی ، وفی بعضها على سیاق صریح ، حرکته النبضة النصیة المستبصرة لتصاعد الموقف الجدلی عبر ثلاثة مقاطع ، لاحظنا من خلالها تحول الشعریة فی هذا النص تحدیدًا من طور التجربة إلى طور الموقف ، وهو ما مثل قدرًا من خصوبة التجربة وحیویتها ، فالرجل على رأس تجربته قد حکم بأننا أمام نقیضین .. نقیض یرى المعارف لب تجارب الکون ، وأصل تکوینه ونقیض مازال یستبیح عالم ( النجوم والبحر والأحلام والحب ) ویتأمل فیه فی مفارقة جدلیة واضحة .. جعلتنا أمام إجراء شعری جدید استحضر الإبداع من خلاله أبعاد تجربته ، على درجة من درجات الوعی ، فنقل السرد من سیاق التجربة إلى سیاق الموقف وراهن علیه ، وإلا ما وجدنا هذا الأسلوب المراوغ فی قوله :
هاهو الحاسوبُ یَهمی
بمرایا المعرفة
وغدا نسهو عن البحر
ونجری
فوق أشواک النجوم الزائفة [58]
وکذلک قوله :
وغدًا
نتحاورُ
نتقاتلُ
حول جدوى الحب والإحساس فینا
حول معنى اللانهایة
وأغانی الصبحوالأحلام
والذکرى الجمیلة [59]
إذن فقوام الجدل هنا قوام مراوغ ، لا تستطیع أن تخرج منه برأی هل الإبداع یتوافق مع صاحب المعارف ، أو هو قرین صاحب النجوم والبحار والمشاعر ؟ وکأننا أمام بُعدین یتأسسان على بنیة التناقض التی تعکس حالة الاضطراب التی یعایشها شبلول فی مثل هذه النصوص ، وهی فی واقع الأمر تمثل هنا حقیقة العلاقة بین الدال والمدلول على مستوى الخطاب النصی [60] ، ولذلک فی مثل هذه الجدلیة لم یجد الإبداع بدًا سوى الاتکاء على منظومة ( الخبر ) وجملته ، خاصة أن المعنى النصی هنا قد تماهى وتداخل بین منطقتی ( المباشرة ) و ( الإیغال ) ، وهو ما سمح للإبداع أن یتحرک سیاقیا فی منطقة وسط بین الفعلیة والاسمیة ، کما یأتی الاعتماد على البناء الفعلی کثیرا فی محاولة التحرک المزدوج بین السطح والعمق ، وبین الحاضر والمستقبل ، وهو ما یعکس قمة الجدل ، الذی یوصلنا بلا خلاف إلى حافة الصراع ، بین حلم الانطلاق إلى عالم الغد بمستکشفاته المبهرة ، وأدواته المغایرة ، وحلم البقاء فی منطقة الحاضر بکل خیالاته الساحرة ، وهالاته الجاذبة ، ولذا کثیرًا ما نستشعر بأن فضل شبلول یعید تشکیل النص عبر مساحات زمنیة تتصارع بین ( الیوم والغد ) ، ولذا نجد حرکة السرد فی النص تحاول جاهدة الدفع ببنیة العمق إلى الصعود من طبیعتها السردیة الخبریة الحکاءة إلى أفق الشعریة الواعی ، والمدرک لطبیعة الموقف والأزمة ، ومن ثم جاء الاتکاء على الأفعال المضارعة کثیرا ، وهو ما یعکس قمة ( الحیرة ) حتى ولو بدا الأمر محسوما مسبقا .. انظر إلى قوله :
وغدًا
نتحاورُ
نتقاتلُ
فهل هناک حیرة أکثر من ذلک فی مثل هذا اللون التقابلی ( نتحاور / نتقاتل ) مما دفع الإبداع لأن یقع أسیرًا لجملة الفعل المضارع ( نسهو – نجری – تصعد – تغرب – تعادی – تدور – تهادی – نتبارى – نهاجر – تمرح – نتحاور – نتقاتل - نستعدی – یخوض ...... إلخ ) ، ولو نظرنا إلیها لوجدناها أفعالا تمیل بالفعل إلى منطقة التقابل ، والجدل ، وسیطرة الحدیث بضمیر المتکلم الجمعی ، وکأن الإبداع هنا لا یقوى ، ولم یقو على مواجهة مناط الحسم بحضوره المنفرد ، فاتکیء على ضمیر الجماعة ، خاصة وأنه أمام لون من ألوان الصدام ، قد یبدو فی ظاهره ناعمًا ، ولکنه فی باطنه یحمل دلالة الخلاف والفرقة ، ولذلک جاء الاعتماد على الزمن المضارع المتکرر ، لیعکس لحظة الحیرة التی فرضت على الإبداع الانتقال والحرکة من وقع ( الحدث ) إلى ردة فعل ( الحالة ) بکل حیویتها ، التی بدت ظاهرة طیلة الدفق الشعری عبر المقاطع الثلاثة ، إلى أن تتحول الشعریة النصیة ممثلة فی صوت الشاعر ( الجمعی ) إلى بنیة مغرقة فی المفارقة [61] ، وهو ما یرجح قوة التأثیر النفسی لسیاق الأفعال فی حرکتها [62] ، وهو ما أدى إلى تصاعد الشعریة بشکل حاد وصل بها إلى أن تصاغ بهذه التراکیب المتتابعة :
إننا الآن نحاورُ
هذه الأضلاع فینا
ونُبیحُ البیع فیها
تحت أنْاتِ المجاهر
إننا الآن نغادر
لقناةٍ من أوامِر
وشعاعٍ من زئیر
وغدًا ..
نتباکى .. نتآمر
حول خیطٍ من حریر
شدَّه الإصبعُ من خَصْرِ العذارى
ورماهُ .. فی لیالی الزمهریر
فانْتفضْنَ الفجرَ خوفًا
وارْتعشْنَ الصبحَ ذعرا
تحت مصباح الأسارى
فلماذا ..
یرحل الحاسوبُ
فی عمق البصائرْ
ویصادرْ ..
کلَّ أحلام الدوائر .. ؟ [63]
إذن فنحن فی الختام أمام سیناریو متصاعد تحرکه أبنیة شعریة متراکبة ومتواترة ومتراکمة على درجة من درجات التکاثف والتلاحق والنماء ، ساعد على نموها رکیزة ( المفارقة ) کما أشرنا ، و ما ترتب علیها من حتمیة ( انتاج الحدث ) متراتبًا علیها ، فی هذه الإدوار الحرکیة ( فانتفضن الفجر خوفا ، وارتعشن الصبح ذعرًا ) وقد یکون هذا کله هو الدافع الرئیس لأن یلجأ صاحبنا بعد ثلاثة مقاطع من الذفع الخبری المحیر ، إلى إسدال الستار بلون استفهامی ، أضاف إلى الحیرة حیرة أخرى ، ولکنها بصیغة الانشاء ، وهذا هو الطبیعی ، لیعود النص إلى نقطة الابتداء.. یقول :
فلماذا ..
یرحل الحاسوبُ
فی عمق البصائرْ
ویصادرْ ..
کلَّ أحلام الدوائر .. ؟ [64]
ولاشک أن هذا السیناریو الشعری لم یکن سیتم لولا أنه جاء مصحوبًا بهذا الإیقاع النغمی ، الذی نستشعر کثیرًا بأنه تواءم کثیرًا مع استرتیجیة خطابه الموضوعی ، خاصة حرصه على ابتناء وحدة قصیدته ، سواء من الناحیة الموضوعیة أوالفنیة ، على بناء إیقاعی صادع ومجهور ومسموع ، وخارج من روی الراء المسبوقة بمد ، وهو بذلک یؤکد على کثیر من الاعتبارات التی تعکس بحق دلالة الحیرة والجدل وضغوطهما ، وهو ما یؤکد بأن العمل بات فی مجمله دائرا فی حومة من الحومات التأثیریة ذات الدلالة والرمز ، ولذا فالملمح الرئیسی هنا فی إطاره النغمی الکلی إنما جاء تحفیزًا لتصاعد نبرة الحیرة ، ومحاولة لربط التجربة الشعریة الجدیدة التی ابتکرها شبلول بهذا الإطار الموسیقی ، الذی یبحث عن علاقة تحفیزیة تخترق جدار التقلید ، وتبث فیه نوعًا جدیدًا من الباعثیة السببیة الرابطة بین التجربة اللغویة عنده والموسیقیة [65] ، وترفد فی الوقت نفسه إشارة جلیة بأن موسیقى اللغة عنده – داخلیة کانت أو خارجیة – إنما جاءت متوافقة مع تنامی نبرة الجدل والحیرة عبر مقاطع العمل الثلاثة ، وأن سیاق هذه الحیرة امتد إلى ختام النص ، والذی ساقه عبر نبرة استفهامیة ، أعادت دلالة الحیرة إلى نقطة الابتداء .. انظر إلى قوله وقد اعتمد اعتمادًا کلیا على روی الراء المسبوقة بمد :
إننا الآن نحاورُ
هذه الأضلاع فینا
ونُبیحُ البیع فیها
تحت أنْاتِ المجاهر
إننا الآن نغادر
لقناةٍ من أوامِر
وشعاعٍ من زئیر
ثم قوله فی الختام :
فلماذا ..
یرحل الحاسوبُ
فی عمق البصائرْ
ویصادرْ ..
کلَّ أحلام الدوائر .. ؟ [66]
إذن فهذا التوظیف الموسیقی المرتبط باستراتیجیة خطابه الجدلی فی هذا النص الاجتراری الحائر ، هو الذی دفعه إلى أن یقیم أبنیته النغمیة فی سیاقها الإطاری عبر خطوط متوازیة ، تحرکها بلا جدال نوایا الإبداع ، وکأنها أول عنصر من عناصر التنبیه لقضیة القصیدة ککل ، ومحورها الرئیس ؛ ألا وهی قضیة لمن البقاء مستقبلا ... للمعارف أم للمشاعر ؟ خاصة وأننا قد رأینا الراء الحائرة بصوتها المسموع تفرض نفسها منذ المطلع الأول للعمل وحتى ختامه ، سواء جاءت مصحوبة بمد ، أم مردفة بتنوین .. انظر لقوله :
إنها الأیامُ تسْتفتی قلوبَ الأجهزة
إنه الحاسوبُ یستعدی سلوکَ الذاکرة
ویخوضُ البحرَ نارًا
ویداوی العشقَ بتْرا
إنه الحاسوبُ
کالعنقاء
یختالُ انصهارًا [67]
إذن فمثل هذا التکرار الصوتی داخل مقاطع العمل ککل ، لم یترک أثرًا غنیًا فی مورفیمات التنبیه ورموزه فحسب ، بل تعداه إلى خدمة فکرة المفارقة التی حام حولها طوال قصیدته ، سواء خرجت فی سیاق ضمنی أو ظاهر ، ویحسب له أن ابتنى مفارقته على الأثرین الصوتی والإیقاعی ، لتکون الدلالة الواضحة هنا ، والمکملة لآلیات خطابه ، من کون الصنعة الموسیقیة فی العمل ککل لم تکن على الإطلاق رسالة هامشیة ، أو من سبیل المزایدة أو التحسین ، إنما کانت أداة من أدوات الخطاب الموضوعی والفنی ، وأرضیة حقیقیة انطلقت منها محاور تجربته الشعریة الجدیدة ، کما یتجلى دورها فی وضعیة ربط الصیغ وابتنائها ، وإفراغها على هیئة الشکل الموازی المشار إلیه ، خاصة أن صیغ التکرار عنده لم تکن متکلفة أو مصنوعة أو استعراضیة جوفاء ، لکنها أثبتت قدرة صاحبها على استخدام تقنیة بارزة من تقنیات الشعر وآلیاته [68] .
ولم تکن الحرکة الموسیقیة أو الإیقاعیة لتکتمل لولا أن وفرت لها حرکة المجاز دوافع انطلاقها ، وانسیابها الممتد ، فنحن بلا جدال أمام نص مجازی بامتیاز ، مالت مفرداته إلى الخطاب العقلانی مرة ، وإلى الإیهام مرات ، لا لشیء إلا أن الخیال فی هذا النص الجدلی الجدید ، جاء لونا من ألوان التماهی للمقام الموضوعی النادر ، أو للحدث الجدلی ، ولصدى الحیرة التی عایشها الإبداع طیلة النص ، ولذا نرى أن العملیة التخیلیة فی هذا النص ، نمت فی حیز الحیرة ذاتها ، ففی مدخل النص مال التخییل إلى العقل ، أو إلى رعایته ، مما أشعرنا بأن السرد فی حرکة النص أخذ من الخیال مادته الحیة ، ثم کرسها عقلانیًا ، فبات النص السردی نصًا معرفیًا بامتیاز ، أو نصًا یشکل وجهًا جوهریًا من وجوه المعرفة ، ( راجع بحث مصطفى بیومی فی عالم الفکر ) :
ها هو الحاسوبُ یَهْمِی
بمرایا المعرفة
وغدًا ... نسهو عن البحر
ونجری ..
فوق أشواکِ النجومِ الزائفة [69]
فالمدخل والذی جاء بلا مقدمات ، مال فیه الإبداع إلى استباق النتیجة عبر المجاز قبل الخبر ، فنحن أمام عالم متخیل ، بطله غیر منشغل ولا مهموم سوى بمرایا المعرفة وقنواتها ، وکأن عملیة التخییل الشعری هنا ، وعبر هذا المدخل ، عملیة إشاریة موجهة أو علاماتیة ، تهدف إلى إثارة المتلقی إثارة مقصودة سلفـًا ، فجاء المجاز هنا لونا من ألوان المحاکاة للمقام الجدلی الحائر ، کما جاء فی رعایة العقل ، بمعنى أن الإبداع قد أخذ من القوة التخیلیة مادته الجزئیة ، ثم عرضها على العقل وصاغها فنا [70] ، فالصورة المجازیة فرضت نفسها منذ المدخل ، وأوجبت على المتلقی أن یعایش المناخ الجدلی ، المتمثل فی الفعل ونقیضه ، أو فی الفعل ورده ، ففی الوقت الذی یتشغل فیه الحاسوب بالفعل ( یهمی بمرایا المعرفة ) یکون رده ونقیضه (وغدًا ... نسهو عن البحر.... ونجری ، فوق أشواکِ النجومِ الزائفة ) ، إذن فالإبداع یقیم صوره على معطیات الإثارة ، وعلاقاتها الإشاریة الموحیة ، باعتبار أن الصورة فی هذا النص تحدیدًا ، هی محور رکیز من محاور الخطاب النصی وآلیاته ، فالنص بأکمله صورة مجازیة متحرکة وممتدة .
کما نجح الخیال هنا فی أن یعکس لنا بأن همًا کلیا بات یسیطر على الحرکة البنیویة للنص ، تکونه مفردات جزئیة تتراکم علیه لتنتج فی النهایة صورة کلیة ، تستهدف إثارة القوة المتخیلة فی المتلقی ، لإفساح السبیل أمام إیهامه بجدلیة الحدث الموضوعی أو الفکری ، والذی أوصلنا فی النهایة بوحی من حرکة الخیال إلى عتبة من عتبات (الصدمة ) ، حینما تحول الحوار إلى قتال ، وجدوى الحب إلى تلاش . انظر لقوله :
وغدًا
نتحاورُ
نتقاتلُ
حول جدوى الحب والإحساس فینا
حول معنى اللانهایة
وأغانی الصبح والأحلام
والذکرى الجمیلة [71]
وکثیرا ما نجدها متکررة عبر مقاطع النص ، بنفس هذه النمطیة وهذا الدافع التقابلی
، حتى ولو کان السرد یحدثنا عن الطرف الآخر .. انظر لقوله :
إنه الحاسوبُ یستعدی سلوکَ الذاکرة
ویخوضُ البحرَ نارًا
ویداوی العشقَ بتْرا
إنه الحاسوبُ
کالعنقاء
یختالُ انصهارًا [72]
فلا شک أن تجربة الخیال هنا جدیدة ، ومحور جدتها قائم على فکرة تنامی المد المجازی عبر التکوینات اللغویة ، لتنکشف من خلالها التجربة ، وتتجدد بها الفکرة ذاتها [73] ، والعلاقات اللغویة هنا لم تتوقف عند حد ابتناء الصورة على مد متنام ، أو نفس شعری طویل ، أو ربط مفردات الصورة الجزئیة بالصورة الکلیة المحرکة ، ولکنها قائمة على تآلف النسیج الإسلوبی الخادم للصورة ، والمعتمد فی هذا النص على قرینة النسج الخبری طوال مقاطع العمل ، والتی تعطی إیهامًا آخر بیقینة الجدل ، وواقعیة المفارقة ، ثم هذا التراکم الترکیبی المتوالی لصیغ الفعل المضارع ، الحاملة لعناصر المجاز بأشکالها المتوازیة ، والتی تعطیک الإحساس بالتکرار المعجمی لدرجة الإشباع لما تحمله من مرادف دلالی ومادی ، إضافة إلى ما أحدثه التشکیل الصوتی والتولیدی للحروف ، وخروج روی التفعیلة معتمدًا على صدى الراء الزاعقة ، إنها بلا شک حزمة من المورفات اللغویة والمجازیة والصوتیة ، دفعت العمل إلى التماسک والتنامی لجدیة معطیاته على مستوى الموضوع والفن .
خلاصة التجربة ونتائجها :
الخلاصة أننا أمام تجربة جدیدة فی الخطاب الشعری حققت غایتها بمقیاس الشعریة المعاصرة ، لیس فقط على مستوى الخطاب الشعری ، أو بنیته ولکنها تجربة أثبتت أن العمل الشعری یمکنه أن یکون من حیث هیکله الموضوعی ، وصیاغته الفنیة عالمًا من عوالم الکشف والمغامرة لآفاق غیر محدودة الملامح والمعالم ، وغیر واضحة المسالک والدروب – لوجود غیر محدود – بات یفرض ذاتیته وکینونته وتأثیره علینا ، ولذا فهی بالنسبة للشاعر مغامرة ، یحاول من خلالها أن یعید اکتشاف الوجود ، وأن یکسبه معنى جدیدًا غیر معناه العادی المکرور ، ووسیلته إلى ذلک هی النفاد إلى صمیم هذا الوجود لاکتشاف العلاقات الخفیة الحمیمة التی تربط بین عناصره ومکوناته المختلفة [74] ، فالشاعر هنا کان فی مهمة أو مغامرة حقیقیة مفادها تحطیم العلاقات الظاهریة المحسوسة وتفکیکها ، وصیاغة مفرداتها على معنى جدید ، ورؤى مبتکرة أضافت أبعادًا غیر محسوسة ولا مستصاغة ، وخرجت عن نمطیة الخطاب المباشر فی صورة تضافریة جدیدة ، اکتنزت بالتوازن الأدائی والإحساس الیقینی الصادق ، ووعی الإدراک ، ونفاذ البصیرة ، وهو ما دفعه إلى تحقیق التعادلیة الصعبة فی ربط المضمون بقوة التمثیل اللغوی والإیقاعی والمجازی .
ومن ثم جاءت اللغة فی العمل بأسره لغة حرکیة تتناسق وتتناغم مع مؤثر معاصر ، یسابق بتکوینه حرکة الزمن ومخرجاته ، ولذا جاءت لغة الدیوان فی مجمله حائرة بین الفعل ، ورد الفعل کما أشرنا ، وکأن الإبداع أراد أن یدفع اللغة ووظیفتها إلى مقوم الأداء الحرکی ، وأن یرتکز على فکرة المقاربة السیاقیة التی تربط بین مباشرة المعنى ، وآلیات تحقیق خطابه النصی بخلق دور للفعل ، والبناء علیه ، ولذلک فهو یدور داخل مجموعة لغویة معینة بطریقة صیاغیة ساردة وحکاءة تتجلى فیها کثیرًا الدلالة المصاحبة للجانب الذاتی ، ومن ثم جاء هذا الاعتماد على جملة الفعل ، وجملة الخبر التی ساعدته کثیرًا على توظیف قدراته الفنیة لخدمة قضیته الموضوعیة ، مثل قدراته الالتفاتیة طوال النص ، التی أبرزت طبیعة تحرکه المزدوج بین مطالع أعماله فی خطاب الحاسوب ، وبین سرد الخواتیم کما بینا ، کذلک کشفت تلک القدرات الالتفاتیة عن رمز المفارقة التی جاءت ضمنیة مرة ، وصریحة مرات على مساحة نصوصه بأکملها ، من خلال سرده المسهب ، وقدراته على التولید للمعنى والرمز ، ومن هنا جاءت المفارقة علامة دالة على صراع النفس البشریة بکامل مکوناتها مع الموجودات المادیة الجدیدة ومنها الحاسوب ، لتبزغ ظواهر الجدل خاصة فی سیاق الصراع بین فکرة رفض الماضی واستشراف الحاضر والمستقبل .
وتبقى من أبرز ظواهر هذا النمط الشعری الجدید ، ومن أجل نتائجه هو أن جدته لم تقف عند حدود توظیف القدرات الفنیة واللغویة والمجازیة أو صناعة الموضوع الشعری ، بقدر ما تتبدى الجدة فی اختلاج هذا السیاق الشعری بحرکة النفس البشریة ، والرباط الإنسانی والوجدانی ، وتطلعها إلى الرؤیة الانطلاقیة البعیدة والجدیدة فی سیاق الخطاب النصی المعاصر ، وکأن الإبداع من خلال هذه النصوص والأعمال الکاملة أراد أن یبحث عن نقطة الالتقاء الفریدة بین ضلعی الثنائیة ، ونفی التعارض بین الحقیقتین العلمیة والشعریة ، وهی الرؤیة التی فرضت نفسها على سطح المعنى ، وعمق البنیة الفنیة والترکیبیة للنصوص المخصوصة بالدراسة .
مصادر البحث ومراجعه
- إضاءة النص – دار الحداثة – بیروت – 1988 م .
- الصورة الفنیة فی التراث الأدبی والیلاغی – دار المعارف – القاهرة 1997 م .
- المرایا المقعرة ؛ نحو نظریة نقدیة عربیة – عالم المعرفة – الکویت 2001 م .
- البلاغة العربیة قراءة أخرى – الدار المصریة العالمیة للنشر – لونجمان – القاهرة 1997 م .
____________________________________
[1] - النص الشعری وآلیات القراءة – د . فوزی عیسى – دار الوفاء لدنیا للطباعة والنشر – الطبعة الثانیة - الإسکندریة 2012 – ص 7 .
[2] - راجع : بلاغة السرد – د . محمد عبد المطلب – الهیئة المصریة العامة للکتاب – القاهرة 2006 ، و د . علی عشری زاید – عن بناء القصیدة العربیة المعاصرة – مکتبة ابن سینا – القاهرة 1992 م ، ود . عبد العزیز حمودة – المرایا المقعرة – ط عالم المعرفة – الکویت – 2001 م ، وجابر عصفور مفهوم الشعر – الهیئة المصریة العامة للکتاب – 1995 م .
[3] - النقد الثقافی - د . عبد الله الغذامی - إصدار المرکز الثقافی العربی - بیروت 2000 – ص 17 .
[4] - نفسه ص 28 .
[5] - المشهد الشعری المعاصر ، قراءة فی تحولات النص – د . فاروق دربالة – مکتبة الآداب – القاهرة 2017 م – ص 73 .
[6]- المرایا المحدبة من البنیویة إلى التفکیکیة – د . عبد العزیز حمودة – إصدارات عالم المعرفة – الکویت 1998 م – ص 96 ، 97 .
[7] - المشهد الشعری المعاصر ص 75 .
[8] - أحمد فضل شبلول – شاعر مصری ولد فی الإسکندریة سنة 1953 م – وتحرج فی جامعة الإسکندریة ، وعمل بإحدى المؤسسات التعلیمیة العلیا ، ثم سافر إلى المملکة العربیة السعودیة حیث التحق بالعمل بجریدة الریاض محررًا أدبیًا ، قدم للساحة الأدبیة أکثر من عشرة دواوین أهمها : ( مسافر إلى الله سنة 1980 ) ، و ( یصیع البحر 1985 م ) و ( عصفوران فی البحر یحترقان 1989 ) و ( تغرید الطائر الآلی 1995 م ) وغیرها ، غیر دواوینه للأطفال ، حصل على جائزة الدولة التشجیعیة فی الآداب عام 2007 .
[9] - الحداثة فی الشعر - یوسف الخال – دار الطلیعة للطباعة والنشر – بیروت 1978 م – ص 14 .
[10] - المشهد الشعری المعاصر ، قراءة فی تحولات النص ص 71 .
[11] - وتعتبر الدراسات السابقة عن مثل هذا النمط الشعری نادرة مثل دراسة الدکتور مختار عطیة ( رؤى نقدیة فی شعر الفصحى المعصر - شعراء من الإسکندریة ) الصادرة عن دار الثقافة اللغویة للطباعة والنشر – المنصورة 2016 ، ودراسة الدکتور محمد زکریا عنانی (الحرکة الشعریة المعاصرة فی الإسکندریة ) الصادر عن دار المعرفة الجامعیة – الإسکندریة 2001 ، ودراسة الدکتور مرسل العجمی ( الواقع والمتخیل : أبخاث فی السرد تنظیرًا وتطبیقا) الصادرة عن عالم المعرفة – الکویت 2014 م
[12] - دیوان تغرید الطائر الآلی – أحمد فضل شبلول – سلسلة أصوات معاصرة - 1997 م – ص 23 .
[13] - المرایا المحدبة من البنیویة إلى التفکیک ص 98 .
[14] - عین الکتابة ، قراءات فی تحولات السرد – د . اعتدال عثمان – الهیئة العامة لقصور الثقافة – 2018 م – ص 50 .
[15] - قراءة الوعی الأدبی – د . محمد مصطفى أبو شوارب – دار الوفاء لدنیا الطباعة والنشر – الإسکندریة 2004 م ص 63 .
[16] - النص المشکل – د . محمد عبد المطلب – الهیئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 1999 م – ص 237 .
[17] - لغة الشعر العربی الحدیث ، مقوماتها الفنیة وطاقاتها الإبداعیة – د . السعید الورقی – دار المعرفة الجامعیة – الإسکندریة 2002 م ص 256 .
[18] - الدیوان ص 20 .
[19] - الدیوان ص 21 .
[20] - قراءة الوعی الأدبی ص 63 .
[21] - مدخل إلى التفکیک – د . حسام نایل – سلسلة إصدارات عالمیة – الهیئة المصریة لقصور الثقافة – القاهرة 2004 ص 182 ، 183
[22] - الدیوان ص 22 .
[23] - مدخل إلى التفکیک ص 195 .
[24] - أصوات شعریة – د . بهاء حسب الله – دار الوفاء لدنیا الطباعة والنشر – الإسکندریة 2016 م – ص 33.
[25] - الدیوان ص 23 .
[26] - مدخل لجامع النص - جیرار جینیت – ترجمة عبد الرحمن أیوب – ط أتوبقال – الدار البیضاء 1986 م ص 91 .
[27] - تسرید الذات ، المرجع والمتخیل – د . عبد الله شطاح – إصدارات عالم الفکر – الکویت 2017 م – ص 14
[28] - الدیوان ص 22 .
[29] - البلاغة العربیة قراءة أخرى – د . محمد عبد المطلب – الدار المصریة العالمیة للنشر – لونجمان – القاهرة 1997 م ص 348 .
[30] - الدیوان ص 21 .
[31] - نفسه ص 22 .
[32] - نفسه ص 23 .
[33] - الدیوان ص 25 .
[34] - الدیوان ص 24 .
[35] - الدیوان ص 25 .
[36] - إضاءة النص – د . اعتدال عثمان – دار الحداثة – بیروت – 1988 م – ص 172 .
[37] - الصعلکة فی الشعر العربی الحدیث ، تحولات النص والمفهوم – د . محمد علیم – الهیئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2017 م ص 258 .
[38] - الدیوان ص 25 .
[39] - الصعلکة فی الشعر العربی الحدیث ص 122 .
[40] - المرایا المقعرة ، نحو نظریة نقدیة عربیة – د . عبد العزیز حمودة – إصدارات عالم المعرفة – الکویت 2001 م ص 109 .
[41] - الدیوان ص 24 .
[42] - بلاغة السرد – د . محمد عبد المطلب – الهیئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة – 2006 م ص 418 .
[43] - مفهوم الشعر – د . جابر عصفور – الهیئة المصریة العامة للکتاب – القاهرة 1995 م ص 196 .
[44] - الدیوان ص 24 .
[45] - قراءة القصیدة الحداثیة أدوات وتطبیقات – د . بهاء الدین مزید – الهیئة العامة لقصور الثقافة 0 القاهرة 2018 م – ص 131 .
[46] - أسالیب الشعریة المعاصرة – د . صلاح فضل – الهیئة المصریة العامة للکتاب – القاهرة 2016 م – ص 241 .
[47] الدیوان ص 25 .
[48] - القصیدة العربیة المعاصرة وتحولات النمط – د . علاء الدین رمضان – الهیئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة 2015 م – ص 319 .
[49] - الدیوان ص 18 .
[50] - الخبرة الجمالیة : دراسة فی فلسفة الجمال الظاهراتیة – د . سعید توفیق - بیروت 1992 م – ص 412 .
[51] - الدیوان ص 16 .
[52] - اللغة والإبداع الأدبی – د . محمد العبد – مکتبة الآداب – القاهرة 1998 م – ص 95 .
[53] - الدیوان ص 17 .
[54] - أسالیب الشعریة المعاصرة ص 123 .
[55] - نفسه ص 17 .
[56] - الشعریة العربیة الحدیثة – شربل داغر – دار الوعی – الدار البیضاء 1988 م – ص 107 .
[57] - الدیوان ص 18
[58] - الدیوان ص 16 .
[59] - الدیوان ص 17 .
[60] - فی الارتباط بین اللفظ والمعنى – د . زین کامل الخویسکی – دار المعرفة الجامعیة – الإسکندریة 1993 م – ص 9 .
[61] - بلاغة السرد – د . محمد عبد المطلب - ص 146 .
[62] - التعبیر البیانی : رؤیة بلاغیة نقدیة – د . شفیع السید – طبعة مکتبة الآداب – القاهرة 2009 م – ص 132
[63] 0 الدیوان ص 12
[64] - الدیوان ص 18 .
[65] - أسالیب الشعریة المعاصرة ص 82 .
[69] - الدیوان ص 16 .
[70] - أصوات شعریة – د . بهاء حسب الله – ص 135 .
[71] - الدیوان ص 18 .
[72] - نفسه .
[73] - الصورة الفنیة فی التراث النقدی والبلاغی – د . جابر عصفور – دار المعارف المصریة – القاهرة 1997 م – ص 229 .
[74] - عن بناء القصیدة العربیة الحدیثة – د . علی عشری زاید – مکتبة ابن سینا للطباعة والنشر – القاهرة 1993 م – ص 11 .
- إضاءة النص – دار الحداثة – بیروت – 1988 م .
- الصورة الفنیة فی التراث الأدبی والیلاغی – دار المعارف – القاهرة 1997 م .
- المرایا المقعرة ؛ نحو نظریة نقدیة عربیة – عالم المعرفة – الکویت 2001 م .
- البلاغة العربیة قراءة أخرى – الدار المصریة العالمیة للنشر – لونجمان – القاهرة 1997 م .
____________________________________